حين يخوض المرء أي نوع من أنواع التحدي لإثبات ذاته، سواء كان هذا التحدي ضد فرد أو جماعة، أو حتى ضد نظام قائم، وعلى الرغم من صعوبة تلك التحديات -فإنها لا تستوي أبدًا مع من يتحدى الفقر؛ فالفقر هو المجهول، لا تستطيع أن ترى هيئته بعينيك، ولا تستطيع أن توجه له اللكمات أو الطعنات لتقضي عليه وتمحيه من الوجود، لا تستطيع أن تواجهه لتطرحه أرضًا، لكنك تراه على وجوه من أصابتهم لعناته. إذا أصابك، فإنه يرافقك في كل خطوات حياتك منذ ميعاد ولادتك حتى نهايتها، يترك أثره على القليل الذي تملكه؛ حذائك البالي بخيس الثمن، حقيبة دراستك، هذا إن استطاع والداك أن يرسلاك للدراسة من الأساس.
كثيرون منا خاضوا حروبًا ضد الفقر، أغلبهم فشل في قهره والقليل مَن انتصر عليه. لكن فلويد مايويذر جونيور أسقط الفقر والحرمان بالضربة القاضية، كما أسقط منافسيه الـخمسين على حلبات الملاكمة.
فحياة هذا الملاكم هي بمثابة قصة فيها العديد من الفصول كمسرحية تبدأ من القعر إلى أعلى القمم فمن خلال هذه المشاهد نروي لكم قصة الطفل الفقير المعدم الذي أصبح مليارديرا …..
المشهد الأول
24 فبراير 1977، السيدة ديبورا سنكلير ذاهبة إلى أحد مشافي مدينة غراند رابيدز، ثاني أكبر مدن ولاية ميتشيغان الأميركية، تداهمها آلام الوضع وهي تستعد لتضع مولودها في خلال ساعات، لا يصاحبها زوجها الملاكم المحترف فلويد مايويذر؛ إذ عودها على الجفاء في مثل هذه المواقف. الخلافات تعصف بينهم، فالسيدة سنكلير مُدمنة مخدرات تواظب على تعاطي الحقن المخدرة باستمرار أما زوجها، فهو غير عابيء بما يحدث، يركز على تدريباته ومبارياته فقط، يسعى لتحدي الأسطورة شوغر راي ليونارد على لقب بطولة العالم ليكتسب المزيد من الشهرة، وربما الأموال التي تنتشلهم من بين براثن الفقر.
المشهد الثاني
الفتى فلويد مايويذر جونيور في الثامنة من عمره، انفصل والداه ويعيش مع أمه وإخوته الثمانية في حجرة واحدة في أحد ضواحي نيو جيرسي، أحيانًا لا تدخلها الكهرباء، الأم لا تملك المال لدفع الفواتير، تنفق كل ما يأتيها على تعاطي حقن الهيروين، أما عمته فقد ماتت نتيجة مرض نقص المناعة “الإيدز” بسبب تعاطيها للمخدرات بدورها، الفقر يضرب بقوة في البيت، والفتى الصغير لا يعلم سبب ذلك.
كلما ذهب للفناء الخلفي للمنزل يجد الكثير من الحقن المخدرة، والده تزوج وأنجب واستقل بحياته، والصورة قاتمة لا تبشر أن هناك تغييرًا قد يحدث، الفتى الصغير يتدرب على يد والده أحيانًا وعلى يد عمه أحيانًا أخرى، فالأسرة كلها تعشق الملاكمة، وعماه جيف ورودجر مايويذر ملاكمان محترفان.
سأم الفتى حياة الفقر وذهب إلى حضن جدته؛ الوحيدة التي تؤمن به وبقدراته في تلك السن الصغيرة، ارتمى في أحضانها وبكى، وأخبرها عن قسوة الحياة؛ قسوة أمه عليه وعدم اعتنائها به، جفاء والده، شكى الفتى عدم حديث والده معه إلا في أوقات التدريب فقط.. “أريد أن أخرج معه خارج مراكز التدريب يا جدتي، أريد أن يصحبني والدي في المتنزه، أريده أن يصحبني إلى مشاهدة عروض الأفلام وتناول المثلجات، أريده أن يعاملني كأقراني، إنه يقسو عليّ يا جدتي ولا يعاملني كما يعامل أختي”.. أخبر الفتى الصغير حينها جدته بسعيه للبحث عن عمل لتوفير المال وترك التدريبات، رفضت جدته ونهرته، وطالبته بالتوقف عن هذا الهراء، وأن يكتفي فقط بمواصلة التدريبات بقوة، والملاكمة هي ما سيكفل له المال.
المشهد الثالث
الشاب اليافع يرتاد مدرسة أوتاوا هيلز الثانوية ويواصل التدريب بقوة، والأب غير المسؤول يتاجر في المخدرات ويُعرِّض حياة أسرته للتدمير. تداهم الشرطة وكر العصابة التي ينتمي إليها والده، وتلقي القبض عليه وتودعه السجن. تزداد آلام مايويذر جونيور. يسبب له سجن والده الكثير من الألم، ثم يكبر الفتى ويتحمل مسؤولية أمه وجدته، فيقرر أن يترك التعليم ويتسرب من المدرسة، لم يعد وقته يسمح بأكثر من كسب لقمة العيش ولا حل لديه إلا الملاكمة، المزيد والمزيد من التدريبات القاسية وخوض النزالات الصغيرة التي تجمع فتات الخبز لتستمر الحياة.
المشهد الرابع
كبُر الفتى وأصبح ملاكمًا هاويًا، يخوض النزالات الواحدة تلو الأخرى، لا يرى أمامه ملاكمين ومنافسين بل الفقر والجوع، لذلك كانت لكماته قوية؛ يُسددها ليقضي عليهم، لكى ينجو بنفسه وأهله من جحيم الفقر، ظل الفتى يسدد اللكمة تلو الأخرى في وجوه وأبدان خصومه حتى ذاع صيته وبدأت وسائل الإعلام تتداول اسمه كأحد الفرسان المبشرين الجدد للفن النبيل ذائع الصيت بالولايات المتحدة الأميركية، وصار زملاؤه يطلقون عليه “الفتى الجميل”؛ لخروجه من جميع المنافسات التي يخوضها بوجه نظيف دون جروح أو ندبات، ويرجع ذلك إلى التقنية الدفاعية الهائلة التي علمها له عمه ومدربه روجر مايويذر وهي تقنية “لفة الكتف”، يضع فيها الملاكم يده اليمنى أعلى قليلا من المعتاد لتغطية وجهه، واليد اليسرى في أسفل القسم الأوسط بحماية جذعه، ويرفع كتفه الأيسر لتغطية فكه، حتى يحميه من الضربات، مع انحرافه يمينًا ويسارًا لتفادي اللكمات، وانزلاقها دون إصابة، إن طالته
المشهد الخامس
الفتى ذو الـ 19 عام في الدورة الأولمبية، أتلانتا 1994، لم تعد أسرته فقط مَن تضع آمالها عليه، بل تضع الأمة الأميركية بأكملها أملها فيه وزملائه لاستعادة العرش الأوليمبي من بين أنياب الكوبيين، ملوك العالم في ذلك التخصص. مايويذر كان في الموعد، في المباراة الأولى قهر الكازاخستاني بختيار تيليغانوف ، قبل أن يُنهي الحكم المباراة لعدم التكافؤ، وفي المباراة التالية هزم الأرميني أرتور جيفورغيان والفتى يسير بخطوات ثابتة نحو المجد، ثم أوقعته القرعة في مواجهة بطل العالم الكوبي لورينزو أراجون في مباراة صعبة ومُتكافئة، ولا أحد يعلم من سيفوز بها. ووسط تشجيع جنوني من المتفرجين الأميركيين، يعلن الحكام فوز مايويذر بالمباراة الصعبة ليصبح أول ملاكم أميركي يفوز على ملاكم كوبي منذ عشرين عاما، ويضمن ميدالية أوليمبية.
الفتى يشعر بالفخر، أسرته ومواطني الولايات المتحدة كلهم يشعرون بالفخر، فتاهم الصغير قد أعاد الولايات المتحدة للواجهة مرة أخرى في لعبة الفن النبيل، ولم يبقى له سوى أن يتخطى منافسه البلغاري سيرافيم تودوروف ليصل للمباراة النهائية.
بدأت المباراة بينهم، يقاتل مايويذر على كل لكمة، منافسه قوي ومخضرم، المباراة متكافئة ولكن الأفضلية واضحة لمايويذر، تنتهي المباراة والجميع ينتظر قرار الحكام بفوز البطل الأميركي الصغير، يمسك الحكم المصري “حامد حافظ شومان” بيدي البطلين. وكما توقع الجميع، يرفع يد مايويذر مُعلنا فوزه، لكن ما هذا؟! الحكم يتراجع عن قراره ويذهب إلى طاولة الحُكام، يستشير مسيّرو المباراة وأعضاء الاتحاد الدولي ثم يعود ويرفع يد البلغاري، مُعلنا فوزه، وسط صرخات هيستيرية واحتجاجات من الجمهور الأميركي وأعضاء المنتخب وتَضج قاعة ألكسندر ميموريال كوليسيوم بالصراخ؛ ما هذا الظلم؟ لماذا مايويذر؟ ألم تستكفي الدنيا بعدُ مِن ظلمه؟ ألا تدرون ما عاناه ذلك الفتى حتى يصل إلى هنا؟
المنتخب الأميركي يتقدم باحتجاج رسمي على نتيجة المباراة، مدعيًا أن الحكام تخوّفوا من مدير الاتحاد الدولي للملاكمة البلغاري إميل جيتشيف، الظلم الواقع على مايويذر دفع الحكم الأميركي بيل ويكيريل لتقديم استقالته لرئيس الاتحاد الدولي أنور شودري، معلنا رفضه أن تُدار رياضة الفن النبيل من خلف الستار وبهذا الظلم الفج، واحتفى الأميركيين بمايويذر، واعتبروه حامل الذهب وليس البرونز.