الحديث عن مدينة وهران يقودنا حتما إلى تاريخها الحافل بمختلف الأحداث و المواقع الهامة التي صنعت من المدينة قطبا هاما تناوله المؤرخون و الفلاسفة و حتى مؤسس علم الاجتماع بن خلدون في مقدمته الشهيرة.
لكن هذا التاريخ الذي انتفضت من خلاله الباهية من غياهب الزمن فيما مضى أضحى حاليا معرضا للطمس في وقت غزى فيه الإسمنت المسلح كافة ربوع الباهية , وأصبحت المعالم التاريخية و الأثرية مجرد أطلال تعشٌش صورها في صفحات الكتب لا غير يتناولها الأكاديميون دون سواهم من العوام خلال أبحاثهم التاريخية.
فبعدما كانت وهران قبلة للسياحة التاريخية أصبحت الآن مدينة بدون ماضي فكل معلم أثري اضمحل أو في طريقه إلى الاضمحلال الأمر الذي جعل شبّان اليوم يجهلون ماضيهم و تائهين في حاضرهم , فتاريخ الباهية الذي من المفروض أن يحفظ في المتاحف أو في محميات أثرية أصبحت تتلاعب به أيادي الجهل و اللامبالاة والمسؤولية لا يتقاسمها هذه المرة المسؤولون لوحدهم كما جرت العادة بل الكل مسؤول عن ما جرى لمدينة قاومت الاستعمار بكافة أشكاله من رومان و وندال و بيزنطيين و إسبان و انتهاءا بالفرنسيين.
لكن ما جرى في عهد أبناء المدينة فاق عصور و قرون من احتلال للباهية ففي مقدمة هذا الإهمال يأتي مسجد “سيدي الهواري” القطب الروحي للمدينة حيث تحول إلى شبه ركام , و كل ذلك لم يحّرك الحّمية لدى المسؤولين عن هذا المعلم التاريخي الذي أذّن فيه للجهاد ضد الإسبان و الفرنسيين .
مثلما هو الأمر لمقبرة “مول الدومة” المشهورة في أعالي حّي الصنوبر العتيق التي ظفرت بأشلاء “الباي محمد بن عثمان الكبير” و العلامة “الطيب المهاجي” و التي أصبحت مرتعا للكلاب الضّالة و قمامات أصحاب الحّي و كأن الباهية و سكانها لم ينصفوا حكامها و علماءها أحياء و أموات.
و غير بعيد عن مقام الولّي الصالح تحولت مغاوير رباط إفري بجبل مرجاجو إلى مراحيض يقضي فيها المنحرفون حاجاتهم “أكرمكم الله” في حين أن هذا الرباط كان مقصد العلماء و الثوار في معركة تحرير وهران من الإسبان حيث كان يتدارس فيه الطلبة العلم و يتذاكرون أصول الفقه خلال الليالي الحالكة , و كان منطلقا للهجمات ضد الأعادي و لم يسلم من سطوة الإهمال حتى قصر الباي محمد بن عثمان الكبير الذي تحول هو الآخر إلى مجرد جدران متصدعة تبكي على يوم كان فيه القصر عينا حارسة على سواحل وهران , و كان يقضي فيه الولّاة بين الناس .
ولم تسلم من معاول الهدم الفوضوي الذي طال حي سيدي الهواري العتيق حتى الغرفة التاريخية التي بايع فيها الوهرانيون سّرا الأمير عبد القادر على خوض المقاومة ضد الفرنسيين و إذا كان هذا حال المواقع الأثرية في قرون ما بعد الألفية الأولى فالحديث عن آثار ما قبل الميلاد والتي تتواجد في بطيوة و أرزيو و المتعلقة بمخلّفات العهدين الروماني و البيزنطي بقيت مجرد أطلال أو ما شابه ذلك.
فحقا صدق كلام المطرب الراحل “أحمد وهبي” حين أنشد قائلا ” وهران …وهران…رحت خسارة”.