الجزء الثاني
طمح الوهراني إلى الالتحاق بديوان الإنشاء (الذي كان يحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية في العصر الأيوبي بعد ديوان الحبس، وكان القاضي الفاضل على رأسه في ولاية صلاح الدين الأيوبي) ، لكن حِيل بين الوهراني وبين ذلك، حينها علم أنه لن يتمكن من منافستهم ومناهاتهم، وإلى هذا أشار ابن خلكان في ترجمته للوهراني بقوله “علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تتفق سلعته مع وجودهم فعدل عن طريق الجِدّ وسلك طريق الهزل” ثم استقر رأي الوهراني على مغادرة مصر.
إلى هنا سكتت التراجم التي أرّخت للوهراني عن سفراته لبلدان أخرى، حتى ( اتخذ من دمشق دارا وكان قد استوطنها على أيام صلاح الدين الأيوبي، ليستقر أخيرا في قرية على باب دمشق في الغوطة تُدعى داريّا، عُيّن خطيبا في مسجدها لضمان مورد عيشه من جهة، وتجنبا لسلاطة لسانه وسخريته اللاذعة من جهة أخرى، حتى توفي بها سنة خمس وسبعين وخمسمائة للهجرة (575 هـ) الموافق لسنة ألف ومائة وتسعة وسبعين للميلاد (1179م)، ودُفن أبو عبد الله بن محمد بن محرز الوَهْرَانيّ – رحمه الله – على باب تربة الشيخ الداراني ) .
أدبه و حلّه و ترحاله
لقد خلّف ابن محرز الوهراني منامات ومقامات ورسائل جمعها وحقّقها كلها ووضعها تحت عنوان “منامات الوهراني ومقاماته ورسائله”، كل من الأستاذين إبراهيم شعلان ومحمد نغش، مع مراجعة لعبد العزيز الأهواني العام 1968م، وقد اعتمد المحققان في إصدار آثار الوهراني على خمس نسخ، ونشير هنا، أن صلاح الدين المنجد سبق له أن نشر نُسخة رقعة على لسان جامع دمشق من مُؤلف الوهراني اعتمادا على نسخة برنستون فقط.
وعند تصفحنا لعمل الوهراني نجده مؤلفا من منامات ومقامات ورسائل تختلف من حيث الطول والقصر، وقد بلغ عدد النصوص التي يحتوي عليها الكتاب زهاء أربعة وأربعين نصا بين منام ومقامة ورسالة.
المنامات من ابتداع الوهراني
فأما المنامات فثلاثة ينتقل من خلالها الوهراني بخياله إلى العالم الأخروي تارة وعالم الجن والشياطين تارة أخرى، ويسعى إلى لقاء صلاح الدين الأيوبي في الدنيا نفسها لأنه كان حيّا يومئذ، وأهم هذه المنامات وأطولها “المنام الكبير” ، الذي تصّور فيه الوهراني أنه بُعث إلى يوم المحشر والتقى هناك بالعلماء والفقهاء والشعراء والوزراء والمتصوفين وغيرهم، تحاور مع بعضهم، ووصف أحوال آخرين، ويبلغ حجم المنام الكبير ثلاثة وخمسين صفحة من الكتاب المجموع.
ومنام الوهراني منثور في أغلبه، تتخلله أبيات شعرية من نظم الوهراني حينا ولغيره أحيانا أخرى، وعنه يقول ابن خلكان:”وَلَوْ لَمْ يَكنْ لَهُ فِيهَا إلاّ المنامُ الكَبير لَكَفَاهُ، فإنّه أتَى فيهِ بِكُلّ حَلاوَة، وَلَولا طُوله لَذكَرْتُهُ”.
سخريته فاقت معقول زمانه
وأما المقامات فرصيد الوهراني منها ثلاثة، كتب الأولى في بغداد والثانية في صقلية والثالثة في شمس الخلافة ، فأما مقامته البغدادية فحاول الوهراني من خلالها سرد بعض المسائل السياسية المتعلقة بمجال الحُكم والحُكّام، كتحدثه عن سيرة عبد المؤمن بن علي وآل أيوب، أما مقامته الثانية في شمس الخلافة فتُدرج ضمن إطار النقد الاجتماعي، إذ أزاح الستار عن ظاهرة الإخلال بالقيم الدينية والاجتماعية القويمة، والمتمثلة في ادّعاء الكثير من الناس التفقّه في الدين من غير عِلم، وقد جعل الوهراني من شمس الخلافة رمزا حيّا لهذا النوع من الناس، بينما حاول في مقامته الثالثة والمسماة ” المقامة الصقلية ” مدح بعض الرجال في أحد المجالس.
وأخيرا أخرج الوهراني نماذج متنوعة من الرسائل ذات الموضوعات المختلفة والتي بلغت زهاء ثلاثة وثلاثين رسالة، أنطق فيها الجماد والحيوان، ففي رسالة كتبها على لسان جامع دمشق، جعل من هذا الأخير لسان حال مساجد دمشق وما حولها، ومشاهد ومدافن الأنبياء والمرسلين، فاجتمعت المساجد، ولجأت إلى أميرها جامع بني أمية، لترى ما هي فاعلة بعد ما مسّها من ضياع.