إن “الذاكرة المشتركة” هي قِيم توحَّد الجماعة في عيشها ورؤيتها للعالم وقد تكون زمنا أو مكاناً يتمّ استحضاره من أجل توحيدها من جديد ونهضتها ، حال مجتمعات الأنبياء مثلا وفي عصرنا الأمة الألمانية.
وقد تحتاجها من أجل “ذاكرة المصالحة” وتنتهج الصّفح والاعتراف والعدالة وهي مسائل بحثتها الفلسفة والعلوم الإنسانية منذ العصر الإغريقي.
وأصبح لها رواجا بعد الحربين العالميتين عند فلاسفة الدين والتأويل والمؤرخين، وكلا الذاكرتين “المشتركة والمصالحة” تعينان على التخلّص من “الذّاكرة المرضيّة” التي تعاني تشظياً وانفصاما وهوسا وهلوسة (فرويد نموذج المعالجين لمثل هذا النوع من الذاكرة المرضية).
حتى لا أطيل عليكم أحببت أن أشير إلى ذاكرة أخرى تُؤثر أو قد تنسي وتمحي ما هو مشترك وتعايشي ووحدوي وهي (ذاكرة الشِّقاق) التي تقوم بعملية اغتصاب للماضي إما باختلاق أحداث , وتنشئ لها سردية من خيال جامح.
فتتكوّن -أي السّردية- مع مرور الزمان ويساعدها في ذلك غياب الروح العلمية وتغلغل الشقاقيين والواهمين في الفضاء العام وفي مستويات القرار.
وأكثر الذين يعبثون بخيال الجماعة بالاختلاق والتأويل السياسيون الذين يعجزون عن مواجهة الحاضر وتفعيل ذاكرتي المشاركة والمصالحة بالإبداع والعدالة فيلجأون إلى البحث عن شرعية وهمية يعتقدونها دفاعا عن الأقلية والخصوصية.
ويلتقي هؤلاء مع خصومهم في السلطة الذين يوظفون الذاكرة بطريقة مشوهة أو يعترفون بذاكرة مُختلقة (مثال أن نُحوِّل عادة أو رمزا أو طقسا إجتماعياً إلى إحتفال رسمي وطني) وهكذا بدل من (ذاكرة تشاركية) تصبح ذاكرة تخصّ جهة ما أو عرقا ولغة معينة.
ويصبح الرمز المشترك بشحنته الإجتماعية والإنسانية مفقرا ومسبّبا للتنازع (تنافس بعض البلدان في تبّني شكلا ثقافيا ما في اليونيسكو وكأنه ضمّ أراض جديدة داخل الحدود الإقليمية) وهذا أيضا فيه سمتي السَّطو والتأويل الفاسد.
إن الإخفاق في بناء ذاكرة جماعية لا تقصي الخصوصيات وتكون رموزا ثقافية ثرية تجمع بين المحلي والكوني كان منذ بداية ما بعد الكونيالية.
واستمرّ النزاع من أجل اكتساب الشرعية بالاستحواذ على الرمزيات ادعاء أو جهلا أو تأويلا بمعرفة غير دقيقة وواعية، ومن يحاولون صناعة (الذواكر المختلقة) هم يصنعون (خريطة عرقية أو جهوية مقيتة).
وبدل أن نعيش حاضرنا ومستقبلنا ب(ذاكرة سعيدة) -تعبير ريكور- يسوقنا هؤلاء السّفهاء إلى(ذاكرة حزينة) يغذِّيها الشّقاق والوهم والكذب وتصح علينا الآية الكريمة (يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) (سورة الحشر 2).
ترى أين هم أصحاب البصيرة لمنع (تخريب الذاكرة) و(تخريب الوطن)؟.