الجزء الأول
يعتبر فن المقامات التي أبدع فيها بديع الزمان الهمذاني و إبن محرز الوهراني لونا أدبيا لم يقتصر على المشرق العربي فحسب بل أبدع فيه ايضا روّاد الأدب في الجزائر عندما كانت قبل الإحتلال الفرنسي قلعة للعلم و التعلم و قبلة للعلماء في شتى أصناف العلوم , و نضع أمام قراء جريدة “المقال” اليوم مقامة من مدينة معسكر تحاكي ما كان يجري في حلقات الدراويش بصبغة ساخرة أدبية تهكمية سوف نجزؤها لعدة حلقات …
روى امحمد بن العربي قال كنت في السنة اليابسة، زحافا من الزايلة، فقصدت من يبيع المجادر، بسوق أم العساكر ( الإسم الحقيقي لمدينة معسكر ) ، فلمّا حللت مساحتها، و دخلت مدينتها، كان ذلك وقت الإصفرار، و احتياج أهل الحوانيت للفرار، فصرت أمشي في العرڤوب، منتظرا لما يحدث من عالم الغيوب.
وقد كنت وقتئذ في البلاد غريب، ليس لي فيها قريب، وقد قرب وقت الظلام، وكاد القلب أن يرتكب الأهوام، و قد حرْت في المبات فلم أدر أوعد مسجدا و اكتمش، أم أدخل قهوة وارتمش، ثم إني تذّكرت أن ولي المجامع، مانع الرقاد في الجوامع، و أمّا القهاوي، فمجلبة للمصائب و الدعاوي.
ثم أني وجبت عني المكتب، بأن أصلّي المغرب، فملت إلى حويطة فيها ناس مساكين، ظاهرين من حالهم محاسين، فلمّا أتممنا الصلاة، و أعقبناها بالباقيات الصالحات، وقف علينا رجل لابس جلابة، مزرقطة الوالبة، فسلّم على الجلاّس، وقال يا أيّها الناس، ألا تحضروا وعدة مـبروكة، و زيارة مقبولة .
فقالوا له ففي أي مكان وجودها، و من أين المقصد إليها، فقال إنها قرية مغراوة، بزاوية درقاوة، فقالوا له سر إعرض غيرنا، و سننطلق وحدنا، فقاموا بأجمعهم، و قبضوا الطريق خلفهم، فحدثتني نفسي بأن أخوض مع الخائضين، وأقصد مع القاصدين.
فلمّا وصلنا إلى المكان المشار عليه، و أتينا المقصود اليه، وجدنا زاوية واسعة الأركان، عالية البنيان، ضاوية بنور الشمعدان، و فيها حلقة من الفقرا يركضون، كأنهم إلى نصب يوفضون، و في وسطهم قشتيل، يهتزّ كأنه برميل، و يرمي بشرر ثقيل، فقلت لمن خلفي سائل، من هو هذا الشيخ الكامل، فقال لي هذا شيخ أتى من المغرب الاقصى، و قد ظهر كريم قصّى.
فقلت الله يبركنا بملقاه، و أن يجعلنا في حماه، ثمّ التزيت عند سارية، في ركنة من الزاوية، و قد بقوا على ذلك حينا طويلا، وهم يهزّون هزّا وجيلا، اذ بالشيخ طاح مغشيا، و تبعته الحلقة بانقطاع الحسّ نفيسا، وبربروا الشيخ بدربال، وشرع كل واحد منهم مشغول ببال، فمنهم من يلمّ عمامته على رأسه، ومنهم من مسح عرقه من جبهته.
و منهم من يصعد الى السما بأنفاسه، ثم انهم بعد ذلك دفعوا الطعام، و اجتمعت الألمام، فلمّا شبعوا و رفعت الأيـادي، و ارتفـعت الأفـارغ و الأڤادي، فرّشوا حول الشيخ المبربر، حايكا من صنعة الغرب منمّر، و قام عند رأسه أحد كأنه خديمه، صفة أو تلميذه، وتحلحل و قال هلمّوا أيّها العباد، هذا سوق ما له نفاد، فمن زيّن نيّته، نوّر سريرته، و من خاب ظنّه، ضيّع سعيه.
و هذا شيخنا الكبير، خليفة السيد الأمير، فمن تعلّق بأذياله، نال جميع تنجاله، و من أراد إصلاح أموره، فليبادر بما في مكتوبه، فما رأيت إلاّ من وقف قبالته، و أجاب دعوته، ثم انهم أفرغوا عليه بالفرق و المقفول، حتّى حصل ما يعمر عين المعلول، فلمّا رأيت سوق الربح قد حما، وانفتحت على كل من زار غما، حنّ قلبي للزيارة، عسى أن تكون لي خيارة.