لكل عصر رجاله و نساؤه الذين يصنعون تاريخه غير أن تاريخ الجزائريين شئنا أم أبينا يبقى في مجمله مكتوبا من قبل العنصر الرجالي الذي يطغى كما تقتضيه الفطرة على أخواتهم من النساء , إلا في استثناءات قليلة و لعل أبرز هذه الإستثناءات حدثت في مدينة وهران إبّان العصر الإستعماري و كانت بطلتها الحاجة “حليمة ” أو كما يعرفها الوهرانيون و الجزائريون على وجه العموم “القايدة حليمة ” .
هذه المرأة استطاعت بذكائها و حنكتها أن تصنع لنفسها مكانة مرموقة حتى أنها استطاعت أن تتسيد على الأوروبيين حينها , الذين كانوا خدما عندها يعملون بالأجرة و نافست الكولون في ثرواتهم و أراضيهم حيث كانت شساعة ممتلكاتها تصل من وهران إلى منطقة العامرية غربا و حتى أبعد من ذلك .
و ثراءها الفاحش لم يأت من العدم بل استطاعت هذه المرأة الذكية الفطنة أن تحافظ على ثروة زوجها ولد قاضي الذي بعدما وافته المنية ترك لها تركة قوامها 1500 هكتار و التي ضاعفتها بمعرفتها في الإستثمار في الزراعة و تربية المواشي.
حتى أن الإسبان و الألزاسيين كانوا يشتغلون عندها باليومية لما عرفوا عنها عدلها و إنصافهم في إعطائهم حقوقهم عكس بني جلدتهم الكولون الذين كانوا يتفّننون في أكل عرق الخمّاسين في ذاك الوقت .
نظرا لتنامي ثروتها و تضاعف التركة التي تركها لها زوجها أضعافا مضاعفة نالت احترام المعّمرين أنفسهم الذين كانوا يطلبون ودّها و كان هدفها رضاها عنهم , و أمام عدلها مع بني عمومتها من الجزائريين حيث كانت تساعد المسكين و تمسح رأس اليتيم نالت محبة الوهرانيين و الجزائريين عموما الذين أهدوها لقب “القايدة ” الذي كان شائعا حينها كتتويج فخري على ما قامت به هذه السيدة النبيلة من أعمال خيرية لصالح أبناء وطنها .
كانت القايدة حليمة ذات توجه ثوري تحّرري فكانت تعيل قادة التحّرر في الجزائر بصفة سرية حتى وصل بها الأمر على تخصيص مستحقات شهرية للأسر التي تم نفي أبنائها نحو كاليدونيا و كانت رؤوفة بما تبقى من أحفاد مقربي الأمير عبد القادر .
و مثلما يقول المثل الوهراني ” تقلب القدرة على فمها تشبه أمها ” نالت إبنتها ستّي شرف المشاركة في الدعم المالي للثورة الجزائرية و لمّا علمت السلطات الإستعمارية بنشاطها تم توقيفها و تعذيبها و زّج بها في السجن المركزي لوهران .
و كل من عرف القايدة حليمة من الشيوخ و العجائز يستذكرون كيف أنها كانت فارسة ماهرة في ركوب الخيل و كانت تجوب ممتلكاتها من وهران حتى العامرية و السوط في يدها حتى تغّنى بها الشعراء قديما قائلين ” القايدة حليمة جدارمي فالتحزيمة ” .
و شخصيتها الكريمة و الثورية لم تأت من العدم بل ورثتها من والدها الذي كان عالما و صاحب مؤلف عن مدينة وهران يحمل عنوان “دليل الحيران و أنيس السهران في أخبار وهران ” .
و لعل الصدقة الجارية التي تركتها المرحومة القايدة حليمة قبل وفاتها هي اقتطاعها لأرض شاسعة من أراضيها الفلاحية المتواجدة في عين البيضاء , كي تكون مقبرة لعموم المسلمين لدفن موتاهم حيث شهدت فترتها امتلاء مقبرة سيدي الغريب و مول الدومة و مقبرة الملح و تشبعها لذا قامت بهذا الفعل الخيري و تبرعت بهذا الوقف لوجه الله تعالى و الوهرانيون لحد الآن يرفعون لها أكّف الضراعة على ما قامت به من فعل نبيل .
المرحومة سّلمت روحها لبارئها سنة 1944 و دفنت في مسجد “بن كابو ” الذي سهرت على بنائه بحي المدينة الجديدة , و ترقد هناك بسلام بعد حياة مثيرة جعلتها فداءا لأن يحيى أولاد بلادها في سلم و أمان حيث أعالت عدة أسر وهرانية و جنبتهم الذل لدى المعمّرين .
و رغم ما قامت به المرحومة القايدة حليمة إلا أنها لم تلق ذكراها صيتا يذكر ما عدا بعض الكتابات و كذا الأغنية الشهيرة التي نظمها على شرفها و التي ستجدونها أسفل الرابط المغني المرحوم أحمد صابر , فما عدا ذلك تستحق المرحومة أن تروى حكايتها في فيلم وثائقي لأنها بحق كانت سيدة نبيلة من خلال أفعالها فألف رحمة تنزل على القايدة حليمة .
أغنية المرحوم أحمد صابر التي تغنى بها بإنجازات القايدة حليمة