الباحث في التاريخ خلف الله زكرياء
في21 من شهر ديسمبر من عام 1852م، غادر الأمير عبد القادر فرنسا على ظهر سفينة فرنسية تسمى (لابرادور) متجها نحو تركيا، وفي طريقها توقفت في جزيرة صقلية حيث استقبل الأمير من قبل حاكمها الذي جال به البلاد، إذ كان صيته شائعا يُرحب به أينما حل أو ارتحل ويعامل معاملة الملوك.
وصل الأمير عبد القادر الأستانة عن طريق صقلية، فدخلت يوم 28ربيع الأول الموافق ل08 يناير 1853م، مصحوبا بالضابط الفرنسي (بواسوني)، ولأول مرة منذ خمس سنوات وطئت قدماه أرضا إسلامية، فكان أول ما قام به هو توجهه إلى مسجد توب خانة (TOPHANÉ) فصلى ركعتين شكرا لله وهي سنة يؤديها المسلمون عند دخول بلدة أو الرجوع من السفر.
كما قام فور وصوله بالتوجه لزيارة ضريح الصحابي الجليل أبي أيوب خالد بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، عند سور القسطنطينية، ولما فرغ منها توجه إلى جامع (صوفيا)، فزاره وقابل الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا الذي أكرمه وأحسن استقباله.
وبعد يومين دُعي لمقابلة السلطان عبد المجيد الذي رحّب بالأمير شاكرا أفعاله وخصاله في الذود عن الدين والوطن، ولم يبخل الأمير على السلطان بما كانت تجود به قريحته من شعر بليغ فامتدحه بقصيدة طويلة عدّد فيها مناقب ومفاخر آل عثمان وحرصهم على الدفاع عن الإسلام وسعيهم للحفاظ على عزّته وقوته داعيا له بالنصر إذ يقول فيها:
☆يا رب يا رب الأنام ومن يا رب أيد بروح القدس ملجأنا
☆ابن الخلائف وابن الأكرمين ومن أحيا الجهاد لنا بعد ما درس.
☆فانصره نصرا عزيزاً لا نظير له واحفظ علاه وأرسل يا كريم له.
☆واهدم وزلزل وفرق جمع شانئه وانصر وأيّد جيش نصرته.
☆الباذلون يوم الحرب أنفسهم إليه مفزعنا سراً وإعلانا
☆عبد المجيد ولا تبقيه وَجْلانا توارثوا الملك سلطاناً فسلطانا.
☆وضاعف المال أنواعاً وألوانا حتى يزيد العدا هماً وأحزانا.
☆من الملائكة حفاظاً وأعوانا واجعل فؤادهم بالرعب ملانا
☆أنصار دينك حقاً آل عثمانا لله كم بذلوا أنفساً وأبدانا.
وخلال إقامته القصيرة بالأستانة توافد عليه الكثير من الزوّار وكان لكل وفد رغبة وهدف، فمنهم الجزائريون الذين سبقوا الأمير إلى المشرق، العلماء، الأعيان، وقناصل وممثلوا الدول الأجنبية، كما زاره البريطاني السير (هنري تشرشل) صاحب المُؤَلف المشهور حياة الأمير.
في هذا الصدق يذكر صاحب تحفة الزائر محمد بن عبد القادر أن الناس كانوا يزدحمون على مشاهدة الأمير أثناء إقامته ورؤيته في الطرقات التي يمّر بها ورحاب منازل الوزراء والعظماء التي يقصدها.