ما قل ودل

قداسة النص الأسطوري بين الإبداع والأصالة…الباحث العراقي جاسم محمد يجيب في جريدة المقال

شارك المقال

جاسم محمد صالح باحث معرفي في أدب وثقافة الأطفال

للنصوص الادبية قداسة في أذهاننا ولا سيما تلك النصوص التي ترتبط بالموروث الحكائي , سواء أكان شعبيا أم طقسيا , حيث تحيط به المعتقدات من كل جانب , تتناوله وتتعامل معه من باب القداسة والإجلال لما فيه من إبداع وتميز , وخاصة الحكايات ذات الطقس الديني أو التراثي , ومن أراد أن يقترب من عوالم الطفولة البريئة النقية وأن يقدم لها تلك المعارف الموروثة بدءا من الحكايات والأساطير والخرافات والسير الشعبية عليه.

اولا  وقبل أن يمارس عمله الإبداعي في تقديم النص لشريحة الاطفال و أن يفهم بنية النص التربوية من حيث الدلالة والمعنى الهادف وأبعاد الأثر الذي يتركه النص في نفوس الأطفال و ثانيا أن يفهم المعاني الخفية التي تكمن في النص بشكل غير مباشر والتي ربما توحي إلى الأطفال معاني غير مرغوب بها وبالتالي تفسد جوهر النص من حيث الدلالة والمغزى .

ثالثا أن يفكر في طريقة ملائمة لتناول النص مستفيدا من المعنى والدلالة , فهناك نص مسرحي أو رواية أو قصة طويلة على أبعد تقدير , فإن غلبت الحركة والدراما على النص فإن المسرحية هي الأقرب , وإن توالت الأحداث وكثر الأشخاص مع تعدد الأمكنة , فإن الرواية هي الأقرب للمعالجة , وإن خلت الأسطورة من حركتها الدرامية وتوالي الأحداث من السرد الممل لأشخاصها , فإن القصة او القصة الطويلة هي الأقرب والأمثل.

رابعا وهو الأهم من حيث المضمون بعد الشكل هو كيف يطرح النص؟ أيطرحه بشكل متوال بسيط ؟ , صيغة مبنية على الحركة التي تتلو النص من الفعل الذي يولّد فعلا والكلام الذي يؤجج الفعل الدرامي , مما يعرقل التفكير لدى الأطفال , والأحداث المنسقة والمعروفة سلفا لا تساعد على التحليق بتلك المخيلة التي نطمح لخلقها وتفجيرها باتجاه خلق سعادة في عوالم الطفولة.

لهذا يلجأ المؤلف الذكي إلى التلاعب بشفافية بالحدث وحركته وتتتابع الزمان والمكان لرفد التفكير بدوافع إبداعية تغير منه نمطية التفكير الأدبي الذي يمارسه الطفل وهو يواكب القراءات الجديدة للمؤلف في نصه الأدبي , كأن يضيف شيئا او يحذف شيئا وأن يتعامل مع الأشخاص والأحداث بلغة الحداثة والعصرنة في الحركة والطرح والتغيير .

فالطفل اليوم ما عادت تنطلي عليه الأجوبة وأن الأشخاص حين يتكلمون فأن كلامهم لغة ومعنى وصياغة يكون غير مقنع مما يجعل الطفل لـن يكون بعيدا كل البعد عن التقبل والتفاعل والمسايرة للأحداث المطروحة والتي هي الأخرى تحاول أن تقنعه بكل فجاجة وسطحية فيشيح بوجهه عنها وفي أعمق أعماقه إن الكاتب يستهزيء به وبطفولته وكأنه يضحك عليه في وضح النهار .

الطفل حين يتفاعل مع النص فإنه يريد شيئا مقنعا فيه مصداقية و إقناع سهل التقبل وإن كان هذا التقبل على وضوحه فإنه يخلق فيه حالة من التحليق في عوالم المعاني , تعاملت مع نص أسطورة كلكامش بكل واقعية وجمالية , فالبطل في الأصل لا يعنيه سلوكا وخلقا و أحداث الأسطورة بعيدة كل البعد عن عوالمه المعرفية ومحاور اهتماماته كان لزاما علي أن أعيد قراءة الأسطورة من جديد وأعيد تفكيكها وهندسة بنائها الدرامي , أغير الألوان والأحداث والمسارات المختلفة واقترب بها كليا من عالم الطفولة .

خلقت الغابة لتكون فيها مدرسة لهم, غيرت شخصية كلكامش من ملك متسلط إلى شخص محب للأطفال متعاطفا معهم يخوض معاركه الطاحنة مع أنكيدو , لأن أنكيدو يمثل فكرة جديدة للصراع الدرامي بيت الإثنين , هناك معسكر للخير والنور والمعرفة مثله كلكامش و أطفال الغابة وهناك معسكر على النقيض منه هو معسكر الجهل والظلام والتخلف مثله أنكيدو وهذا المعسكر يحتاج إلى شخصية فاعلة أخرى تلعب دورا مهما في تعزيز حالة انكيدو .

فابتكرت الساحر الشرير الذي يمثل البعد الحقيقي لمعسكر الجهل والظلام , وتفجر الصراع بينهما بشكل مقنع ومقبول لأنني تمكنت من تغيير بنية البطل الأسطوري وقربته من الواقعية المقبولة في عالم الأطفال وتغيرت قوة وعنجهية وطغيان كلكامش مما هو معروف عنه في الأسطورة إلى فعل إنساني و سعي تربوي وطفولي.

في حين ألبست أنكيدو الثياب التي تليق به وهو واقف مع معسكر الشر يدافع عنه وعن حقد الساحر الشرير وأفعاله الدنيئة في منع أطفال أوروك من التعلم والذهاب إلى المدارس ومني أخيرا بالهزيمة النكراء والفشل وعاد النور من جديد إلى غابة أوروك وانخرط الأطفال في المدارس وبدأ النور المعرفي يشع من جديد .

واخيرا لا بد أن أقول أن احترامنا لقدسية النص الأسطوري والحكائي والموروث الشعبي لا يمنعنا أبدا من التعامل معه وإعادة صياغته وينائه من جديد وفق رؤية الحداثة والعصرنة لأن الهاجس التربوي والإنساني لا بد أن يكون حاضرا في مخيلة الأديب فهو أيضا مطالب بإحياء التراث وإعادة بعثه من جديد في نفوس الأطفال مع الحفاظ على القيم السمحاء التي يمكننا وبكل ذكاء من استخلاصها من روح النص الاسطوري .

فاكثر أساطيرنا : ( سمير ميس , شجرة الكرز البابلية , قصة الخليقة , تيامات , صعود عشتار , تموز ) …إلخ وكذلك حكاياتنا الشعبية مثل : الزير سالم , تغريبة بني هلال , جابر وجبير , سيرة الأميرة ذات الهمة , ألف ليلة وليلة , عنتر بن شداد , أبو زيد الهلالي … الخ , كلها كنوز معرفية لابد من إعادة تقديمها بشكل أكثر بهاءا وجمالا.

Share on facebook
Facebook
Share on telegram
Telegram