إذا كنت نويت الكتابة على ملحمة النساء الجزائريات إبّان فترات الكفاح المسلح و حتى في أوقات السلم عليك بنصيحة و هي جلب الأطنان من الأوراق, لأن ملاحم حرائر الجزائر تعّددت و تبلورت و أنتجت قصصا منها الأغرب من الخيال و منها ما تضاهي قصص الأساطير الأفلاطونية,لكن النتيجة المستخلصة منها واحدة و هي تقاسم بطلاتها حب الجزائر اللواتي رضعن عشقها و همن في ملكوته و أرضعنه لكل حّر ثائر.
و رغم وفرة قصص هؤلاء الحرائر اللواتي ساهمن في تاريخ الجزائر,آثرت جريدة “المقال” أن تبحر بكم في بعض قصص من بقيت بصماتهن في أرشيف الحكايا التي لا تنفع لقصص ما قبل النوم,بل هي قصص تحّفز على القيام من النوم و تزرع العزيمة و الحماس في كل زمان و مكان.
فأولى الأمثلة هي بذرة بنت الباي بوكابوس هذه المرأة التي بفضلها انتشرت عبارة ” ها الهدرة يا بذرة “,التي لا تزال لحّد الآن متداولة ما بين ساكنة وهران خصوصا و الجزائر على وجه العموم,فهذه المرأة عاشت بعد معركة تحرير وهران و هي سليلة الباي محمد بن عثمان الكبير الذي ورثت عنه الزعامة و الجود و الكرم,فبالرغم من أنها عاشت تحت ظل باي مستبد و هو حسن باشا الذي سّلم وهران على طبق من ذهب للفرنسيين,إلا أن كلمته لم تكن لتعلو كلمتها فكانت تحكم لمسائل الناس بالحّق و تعلو كلمتها فوق كلمة زوجها الذي كان يسعى لإرضاء العامة في خاطر عيون بذرة و كم من مرة تدخلت لرفع الغبن و تخفيف الضرائب,فكان كل من يريد قضاء حاجة عليه الإتصال بهذه المرأة الحّرة لذا قديما قيل و لا يزال يقال ” ها الهدرة يا بذرة”.
ثاني مثال يحتذى به في مدينة وهران و كل الجهة الغربية و الجزائر عموما هي القايدة حليمة التي كانت عنوانا للمرأة المثابرة التي حافظت على أرزاق زوجها بعد مماته,و كانت معيلة لأسر الفقراء و و اليتامى و المساكين و كان كل من يريد حاجة عليه بطرق أبواب القايدة حليمة,حتى قال فيها الشاعر البدوي ” القايدة حليمة جادارمي فالتحزيمة”,حيث ملكت هذه المرأة الأراضي من وهران حتى تسمسيلت و كانت ذات قيمة عند الفرنسيين و كانت تمّول المدارس القرآنية و تعيل اليتامى و الفقراء فكانت بحق وقود لثورة التحرير المباركة و أخذت المشعل منها ابنتها “لالا ستي” التي سجنت و عذّبت لأجل أن تحيا الجزائر حرّة مستقلة.
و لعل المثالين الثالث و الرابع هما الشهيدتين سوفي زوبيدة و صليحة ولد قابلية فكلتاهما آثرت الصعود لقمم الجبال لأجل مقاسمة الرجال شرف الذود على حرية البلاد و العباد على سلالم العلم و المجد الدنيوي,فسوفي زوبيدة كانت ممرضة استخدمت خبرتها في علاج الجرحى من جنود جيش التحرير البواسل حتى قضت برفقتهم في إحدى الغارات الفرنسية,و أما صليحة ولد قابلية فكانت جرّاحة أسنان فضّلت هي أيضا الموت و البندقية في يدها في جبال إسطمبول بمعسكر على العيش ذليلة خانعة تحت نير الإستعمار.
و المثال ما قبل الأخير هو جدّتي التي خدمت الثورة رفقة زوجها الذي هو جدي فكان المرحوم فدائيا في كتيبة مغاوير الفدائيين بحي المدينة الجديدة العتيق بوهران,و كان يجتمع في بيته زملاءه من الفدائيين و كانت تنّفذ برفقته أجندة التصفية في صفوف جنود الإستعمار أو أزلامهم من الحركى,فكانت المرأة الحديدية الحاجة”زولة” تخّزن الأسلحة الأوتوماتيكية في بيتها و تقّسم ترسانة الرصاصات التي لم تكن تخطأ صاحبها,فمثل ما قامت به حدتي التي أعانت جدي على صعوبات الحياة و شاركت معه حلمه في أن تحيا الجزائر لا يقاس بمثقال الذهب و كل المعادن النفيسة.
و آخر مثال هو لوالدتي أطال الله في عمرها التي لم تذّخر أي جهد في تربيتنا على الطريق القويم,و كانت بحق ذاكرة شفهية لنا لما قام به الوالد المرحوم خلال ثورة التحرير و كذا أخوالها و أجدادها الذين وهبوا حياتهم خدمة للوطن الحبيب,فبمثل هؤلاء النسوة و غيرهن من حرائر الجزائر وجب لنا الإفتخار بهن,فهن سليلات المجد و الكفاح اللواتي صنعن عيد المرأة من قبل حتى أن تفكر النساء الغربيات أن تحتفلن بتاريخ الثامن من شهر مارس من كل عام, فعيد الجزائريات هو كل يوم من أشهر السنة,فدامت جدّاتنا و أمهّاتنا و أخواتنا و زوجاتنا و الرحمة لكل من غادرننا نحو عالم أفضل.