ما قل ودل

العلوم البينيّة في خدمة تحليل الخطاب والوعي الفكريّ…محور ندوة دولية بمشاركة أكاديمية الوهراني

شارك المقال

تُعدُّ البروفيسور سعاد بسناسي من بين أبرز الأسماء الفاعلة في مجال البحث العلميّ بالجزائر وخارجها، وهي أكاديميّة جزائريّة بجامعة هران1 وعضو المجلس الأعلى للّغة العربيّة، ورئيسة أكاديميّة الوهرانيّ للدّراسات العلميّة والتّفاعل الثّقافيّ ومديرة مخبر اللّهجات ومعالجة الكلام، تعكفُ الأستاذة سعاد على تحقيق عدّة إنجازات ونشاطات معرفيّة وعلميّة بشكل متواصل، حيث قدّمت ضمن فعّاليّات ندوة علميّة دوليّة نظّمها المجمع الأكاديميّ العالميّ بالعراق تنسيقًا مع أكاديميّة الوهرانيّ للدّراسات العلميّة والتّفاعل الثّقافيّ بالجزائر بعنوان: (العلوم البينيّة في خدمة تحليل الخطاب والوعي الفكريّ).

حيث تحدّثت بدايةً الأستاذة سعاد بسناسي عن الخطاب وتحوّلاته في الفكر المعاصر؛ بحيث اعتبرت أنَّ الخطابَ في الفكر المعاصر ليس مجرّد كلام أو نصّ عادي، بل هو بنية معقّدة تتجاوز اللّغة لتشمل السّياقات الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة التي تُنتج المعنى وتُشكّل الواقع. تحوّلت دراسة الخطاب من تحليل لغويّ تقنيّ إلى فهم نقديّ يستكشف علاقات القوّة والمعرفة والسّلطة، ويكشف كيف تؤثّر الخطابات في تشكيل وعي الأفراد والجماعات، ممّا يجعله أداة حيويّة لفهم الدّيناميّات الفكريّة والاجتماعيّة المعاصرة.

وأشارت إلى مفهوم العلوم البينيّة (Interdisciplinarity) ونشأتها وتطوّرها. انطلاقًا من أنّ العلوم البينيّة تشير إلى النّهج البحثيّ الذي يجمع بين معرفتين أو أكثر من تخصّصات مختلفة لتكوين فهم أعمق وأكثر شموليّة لقضايا معقّدة لا يمكن تناولها من خلال تخصّص واحد فقط. نشأت هذه الفكرة كردّ فعل على التّخصصيّة المفرطة التي حدّت من رؤية المشكلات بشكل شامل، وتطوّرت عبر القرن العشرين مع توسّع المعارف واحتياجات حلّ المشكلات متعدّدة الأبعاد، حيث بات التّعاون بين التّخصّصات ضرورة معرفيّة ومنهجيّة لتعزيز الإبداع والابتكار العلميّ.

كما أوضحت علاقة تحليل الخطاب بالعلوم الأخرى: اللغة، السيمياء، السوسيولوجيا، الفلسفة، علم النفس. إذ يرتبط تحليل الخطاب ارتباطًا وثيقًا بالعلوم الأخرى مثل اللغة التي تزوده بالأدوات اللغوية لفهم النصوص، والسيمياء التي تدرس العلامات والدلالات، والسوسيولوجيا التي تفسر السياقات الاجتماعية والثقافية للنصوص، والفلسفة التي تساهم في التأمل النقدي حول المعنى والوجود، وعلم النفس الذي يسلط الضوء على الدوافع والعمليات الذهنية وراء التواصل. هذا التداخل يثري فهم الخطاب ويعزز قدرته على الكشف عن أبعاده المتعددة.

وتطرّقت إلى تحليل الخطاب بين العلوم المعرفية والإنسانية وكيف ساهم علم اللغة التداولي وعلم النفس المعرفي في تطوير فهم الخطاب: ساهم علم اللغة التداولي في تطوير فهم الخطاب من خلال تركيزه على السياق التفاعلي وأفعال الكلام التي تتجاوز المعنى الحرفي، ما يتيح تفسير القصد والوظيفة التواصلية. أما علم النفس المعرفي فأسهم في توسيع هذا الفهم عبر دراسة العمليات الذهنية التي تعالج النصوص، مثل الانتباه والذاكرة والاستدلال، مما يعمّق إدراك كيفية تكوين المعنى واستقبال الرسائل في الخطاب.

السّيميائيات ونظريات التأويل كأدوات تحليل بينية: تُعدّ السيميائيات ونظريات التأويل أدوات تحليل بينية تكشف عن مستويات المعنى العميقة في النصوص، حيث تدرس العلامات والرموز وتفسيراتها الثقافية والاجتماعية، بينما تركز التأويل على فهم النصوص في سياقاتها المتعددة، مما يمكّن من استثمار مقاربات متعددة لفك شفرة المعاني وتجاوز القراءة السطحية.

توظيف علم الاجتماع وعلم النفس في الكشف عن الوعي الجمعي داخل الخطاب: يساعد توظيف علم الاجتماع وعلم النفس في تحليل الخطاب على الكشف عن الوعي الجمعي من خلال فهم السياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكل الأفكار والمواقف المشتركة، إضافة إلى استكشاف البُنى النفسية التي تؤثر في تشكيل الإدراك الجماعي والتفاعل مع الخطاب، ما يعزز فهم العلاقة بين الفرد والمجتمع في إنتاج المعنى والتأثير الفكري.

يساعد توظيف علم الاجتماع وعلم النفس في تحليل الخطاب على الكشف عن الوعي الجمعي من خلال فهم كيفية تشكل المعتقدات والقيم المشتركة بين أفراد المجتمع وتجلياتها في النصوص الخطابية. يُمكّن علم الاجتماع من رصد البُنى الاجتماعية والسلطة التي تؤثر في إنتاج الخطاب، بينما يتيح علم النفس فهم الدوافع الفردية والجماعية وتأثيرها على تكوين الصور الذهنية والانفعالات المرتبطة بالخطاب، ما يُسهم في تفسير كيفية تشكيل الخطاب لهوية الجماعة وتأطير وعيها الاجتماعي والثقافي.

البعد النّقديّ للعلوم البينيّة في تحليل الوعي الفكريّ: يمثّل البعد النّقديّ للعلوم البينيّة في تحليل الوعي الفكريّ أفقًا متطوّرًا يتجاوز التّخصّصات الضيّقة ليمنح أدوات معرفيّة متعدّدة تكشف تعقيدات الخطاب وأثره في تشكيل الوعي. من خلال تفكيك الخطاب الإيديولوجي بمنظور بيني، تبرز الطبقات المختلفة للمعنى والدوافع الخفية التي تحرك الخطاب، ما يساعد على فضح التلاعبات والتأثيرات التي لا تظهر في التحليل الأحادي.

تعتمد هذه العلوم على مقاربات تساهم في كشف اللاوعي الخطابي، ذلك البعد الخفي الذي ينطوي على رموز وقيم غير معلنة تُوجّه الفكر والسلوك بعيدًا عن الإدراك المباشر. في الوقت ذاته، يُنظر إلى الخطاب كأداة مركزية في تشكيل وتوجيه الوعي الجمعي والفردي، إذ لا يقتصر دوره على التعبير عن الواقع، بل يساهم في بناءه وتشكيل إدراكاته، من خلال استخدام رموز واستراتيجيات تحكم التفاعل المعرفي والثقافي.

تعزز الدراسات التحليلية التطبيقية هذا الفهم من خلال نماذج تكشف التداخل البنيوي بين عناصر الخطاب وبنية الوعي، مما يُظهر كيف يُنتج الخطاب معانٍ متعددة ومتناقضة في آن معًا، ويُسهم في إعادة تشكيل الأفكار والهويات عبر التداخل بين النصوص والسياقات الاجتماعية والثقافية. بهذا الشكل، تتحول العلوم البينية إلى أداة نقدية فاعلة تُمكّن من قراءة أعمق وأكثر شمولية للوعي الفكري المتمثل في الخطاب.

نحو مشروع معرفيّ تحويليّ لتحليل الخطاب

يمثّل مشروع تحليل الخطاب التحويلي خطوة نوعية تستفيد من إمكانات البحث البيني لتجاوز الاختزال الذي يفرضه التخصص الضيق، حيث تسمح المقاربة البينية بفتح آفاق واسعة تجمع بين مناهج وأدوات مختلفة تمكّن من فهم الخطاب بكل أبعاده المعرفية والثقافية والاجتماعية. هذا التكامل المعرفي يسعى إلى بناء نموذج تحليلي شامل للخطاب، لا يكتفي بقراءة النصوص في بعدها اللغوي أو السردي فقط، بل يدمج بين علوم متعددة مثل علم الاجتماع، الفلسفة، السيمياء، وعلم النفس، لخلق رؤية متكاملة تستوعب التعقيدات والطبقات المتعددة التي يحملها الخطاب.

يرتبطُ هذا النَّموذج بالقيم المعرفيّة والأخلاقيّة، إذ يُعتبر تحليل الخطاب ليس مجرّد نشاط فكريّ بحت، بل عمليّة تهدف إلى بلورة وعي نقديّ يقاوم التّحيّزات ويفضح الاستراتيجيّات الإيديولوجيّة، مع تعزيز المسؤوليّة المعرفيّة تجاه القارئ والمجتمع، ممّا يساهم في نشر ثقافة الوعي والتّمكين الفكريّ. على صعيد التّطبيق، يدعو المشروع إلى تطوير آليّات تعليميّة وأكاديميّة مبنيّة على التّكامل المعرفيّ، تشجّع على التّدريب المتخصّص متعدّد الأبعاد، وتكسب الدّارسين أدوات تحليليّة مرنة وقادرة على التّعامل مع تعقيدات الخطاب في مختلف السّياقات، ممّا يفتح المجال لإنتاج معرفة نقديّة متجدّدة وقادرة على المساهمة في التّحوّلات الفكريّة والاجتماعيّة.

تشكّل العلوم البينيّة أداةً حيويّة أسهمت بشكل ملموس في تعميق فهم الخطاب وتحليله بعمق أكبر، ممّا أسفر عن بناء وعي فكريّ نقديّ وتحليليّ قادر على تفكيك البنى المعرفيّة والإيديولوجيّة الكامنة داخل الخطاب. رغم ما حقّقته هذه المقاربة من تقدّم واضح، تظلّ هناك حدود للدّراسة تعود إلى طبيعة الخطاب المعقّدة وتداخل مستوياته، ممّا يفتح المجال لمزيد من التّوسّع والتّطوير عبر دمج مناهج وأدوات جديدة تنسجم مع التّطوّرات المعرفيّة والثّقافيّة المتسارعة. في هذا السّياق، يصبح إدراج علوم تحليل الخطاب البينيّ في مناهج التّعليم والبحث العلمي ضرورة ملحّة، لما لذلك من أثر بالغ في إعداد باحثين ومفكّرين يمتلكون أدوات معرفيّة متعدّدة الأبعاد تؤهّلهم لفهم الواقع وتحليل خطاباته بموضوعيّة وعمق، بما يثري المشهد الفكريّ ويعزّز الوعي النّقديّ في المجتمعات المعاصرة.

Share on facebook
Facebook
Share on telegram
Telegram