
أد. بوعرفة عبد القادر (جامعة وهران2)
يُقارن المتابعون للمشهد الفلسطيني بين ما حدث زمن أسر جلعاد شاليط وما يحدث اليوم، إذ كان الصهاينة آنذاك أكثر حرصًا على حياة أسير واحد فقط، بينما في أحداث 7 أكتوبر نلاحظ العكس تمامًا، مما يدفع الكثير إلى التساؤل: ما الذي تغيّر؟ وهل هناك معطيات تفرض على سَاسة الكيان المارق عدم الاكتراث بحياة أسراهم؟
إن الرهان الخفي في ظل الدمار، وفي خضم أتون الحرب والإبادة المفتوحة التي تجتاح غزة منذ أكتوبر 2023، يتجلى في ثروات غاز غزة؛ إذ هو العامل الخفي في تصاعد وتيرة الدمار المنهجي، وعدم الاكتراث بحياة الأسرى. وتشير التحليلات الجيوسياسية إلى أن هذا العنصر – وإن لم يكن السبب الوحيد – يُشكل محركًا رئيسًا في استمرار الحصار وتصاعد العدوان. فالأرض التي تُباد وتُقصف من الجو ومن البحر، تخفي تحت سطحها وبحرها ثروات طاقية هائلة، ظلت مخفيةً لعقود بفعل السياسات الإسرائيلية، بينما تسارع إسرائيل إلى ملأ الفراغ الطاقي الأوروبي بعد الحرب الأوكرانية.
وسنعتمد في تحليل هذا الوضع على بعض التقارير العالمية، لا سيما تلك التي نشرتها صحيفة The Guardian في 11 أكتوبر و20 نوفمبر 2023، وأيضًا على تصريحات ميشيل تشوسودوفسكي الذي أكد أن الهدف الأساس من عملية الإبادة هو الاحتلال العسكري الصريح لغزة، وطرد الفلسطينيين من وطنهم، ومصادرة احتياطيات الغاز الطبيعي البحرية في غزة، وتحديدًا تلك التي اكتشفتها شركة “بريتيش غاز” عام 1999 قبالة القطاع، وكذلك اكتشافات حوض الشام عام 2013.
*- ثروة غزة المدفونة
– حقل غزة مارين 1 &2.
اكتُشف هذا الحقل عام 1999 قبالة ساحل غزة (36 كم غربًا)، وتُقدر احتياطياته بـ تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وفقًا لتقارير شركة “بريتش غاز”، هذه الكمية تكفي لتغطية احتياجات فلسطين من الكهرباء لأكثر من 15 عامًا، وتوليد عائدات سنوية تُقارب 1.2 مليار دولار – ما يعادل 50% من موازنة السلطة الفلسطينية الحالية.
– حوض الشام (Levant Basin)
تم اكتشافه سنة 2013، ويضم احتياطات ضخمة من الغاز في شرق المتوسط، وتنتشر بعض امتداداته الجيولوجية قبالة سواحل غزة وجنوب فلسطين المحتلة.
*- التحديات الجيوسياسية
رغم الموقع الجغرافي الواضح للحقل داخل المياه الاقتصادية الفلسطينية، إلا أن إسرائيل تفرض حصاراً بحريًا صارمًا منذ 2007، مانعةً أي تطوير فلسطيني أو دولي للحقل. كما أن الاتفاقيات السياسية (مثل أوسلو) تركت حقوق الغاز في حالة غموض قانوني، مما سمح لإسرائيل بالتحكم الفعلي بهذه الثروة .
*- الحصار والدمار.. سياقات مترابطة
اندلعت الحرب بعد أشهر فقط من إحياء المفاوضات بين مصر والسلطة الفلسطينية لتطوير “غزة مارين” بدعم أوروبي. وقد وُصفت هذه الحرب بأنها “الأكثر تدميراً منذ 1945“، حيث:
- دُمِّر 80% من المنازل و50% من البنى التحتية.
- يُقْتل 148 شخصًا يوميًا في المتوسط .
- مجموع الشهداء والمفقودين بلغ إلى غاية اليوم 06 أكتوبر ما يقارب 140 مئة ألف… عكس ما تُقدمه النشرات العالمية التي تحصره في 61 ألف بين مفقود وشهيد.
- تزامن هذا مع توقيع إسرائيل اتفاقيات تصدير غاز لأوروبا، مستغلةً أزمة الطاقة العالمية.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 20 % من سكان غزة يواجهون “مستويات كارثية من الجوع”، وتم تدمير % 84 من المراكز الصحية، وهو ما يُضعف قدرة الفلسطينيين على الصمود، ويهيئ الأرض لتهجير قسري قد يفتح الطريق أمام الاستيلاء على الثروات البحرية.
*- الغاز في قلب الصراع الجيوسياسي
تسعى إسرائيل لتصبح “مركزًا إقليميًا لتصدير الغاز“، لا سيما بعد اكتشافات حقل “ليفياثان” في حوض الشام. وفي هذا السياق، يُعد غاز غزة:
- تهديدًا لاحتكارها السوقي.
- مصدرًا قد يُعزز استقلال الطاقة الفلسطيني، مما يُضعف قبضتها على القطاع.
وبعد الحرب الأوكرانية، أصبحت أوروبا تعتمد على الغاز الإسرائيلي بنسبة 12% (متوقع زيادتها إلى 25% بحلول 2030). هذا يفسر:
- صمت الاتحاد الأوروبي على تدمير غزة.
- دعم واشنطن ولندن وبرلين غير المشروط لإسرائيل رغم إدانة محكمة العدل الدولية.
رابعاً: الإبادة الجماعية.. بين القانون والواقع
أكدت محكمة العدل الدولية في يناير 2024 أن الفلسطينيين يواجهون “خطرًا حقيقيًا بالإبادة الجماعية“، وأمرت إسرائيل بمنع أعمال الإبادة والتحريض عليها.
وقد استند القضاء الدولي إلى:
- تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تُظهر “نية التدمير”.
- استخدام التجويع والعقاب الجماعي (وهما من أدوات الإبادة حسب اتفاقية 1948).
ومما سبق، كشف استطلاع بين باحثي الشرق الأوسط في الولايات المتحدة أن:
- 75 % يعدون أفعال إسرائيل في غزة “إبادة جماعية أو جرائم حرب شبيهة بالإبادة“.
- % 90 يرون أن الهدف هو جعل غزة “غير صالحة للحياة الفلسطينية”.
وجملة القول، إن غاز غزة ليس مجرد “كنز طبيعي طاقوي”، بل هو اختبار للضمير العالمي، فيُمكنه أن يُحرر الاقتصاد الفلسطيني من التبعية، ويموّل إعادة إعمار غزة.
ومن ناحية أخرى، قد يتحول إلى “لعنة جيوسياسية” تجعل الأرض الفلسطينية ساحةً لصراع القوى الكبرى، ويُنذر بفوضى بمنطقة الشرق الأوسط.
بينما تُدفن جثث الآلاف تحت أنقاض غزة، تُدفن معها أحلام شعب بكامل بحقوقه في ثرواته. لكن التاريخ يُذكّرنا أن الثروات التي تُسرق بقوة النار، لا تُنتج إلا رمادًا يخنق السارق قبل المسروق. فهل تتعلم البشرية أن الطاقة لا تُستخرج من تحت الجثث، إلا لتتحول إلى طاقةٍ تُحرق ضمائر من يملكونها؟
كما أن الجهاد الشعبي يُولد من رماد الإنسانية المنسي، ومن أنين الذكريات المحفور في تجاعيد الزمن.