ما قل ودل

الجزائر والكيان المارق…تجربة 1988 بين أمن السيادة ومعنى الردع السياسي

صورة لإعلان دولة فلسطين على أرض الجزائر

شارك المقال

أ.د. عبد القادر بوعرفة

تتعامل الجزائر منذ الاستقلال مع ما يُسمّى “دولة إسرائيل” بوصفها كيانًا مارقًا (Rogue Entity) ومنظمةً إجراميّة تتحدّى القوانين والأعراف الدولية ولا تمتلك شرعيةً دولية. وعلى هذا الأساس اتخذت الجزائر في نوفمبر/تشرين الثاني 1988 جميع الاحتياطات اللازمة حين استضافت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر العاصمة، حيث أُعلن قيام دولة فلسطين يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني  من السنة نفسها. وقد جاءت تلك الاستعدادات الأمنية على وقع ضربة حمّام الشطّ بتونس عام 1985.

حادثة 1988 وانعكاساتها المستقبلية

في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، وأُعلن يومها “قيام دولة فلسطين”، وهو ما عُدّ أكبر تحوّل في مسار النضال الفلسطيني. وقد وثّقت الحدثَ دورياتٌ بحثية وملاحقُ وثائقية، ونقلت تفاصيلَه الصحافةُ الدولية بوصفه منعطفًا سياسيًّا في مسار منظمة التحرير، حيث تبنّت لغةً أقرب إلى مقاربات الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة. هذه الخلفية الموثّقة تُثبِت المكانَ والزمانَ والسياقَ السياسي للإعلان، وتُبرز الدور الجزائري في حماية الوفود ورعاية أعمال المجلس.

ومن الزاوية الأمنية، سبقَ الإعلانَ استنفارٌ غيرُ اعتياديّ في العاصمة، وفق تقارير صحفية وتحقيقات لاحقة استندت إلى مصادر عسكرية متقاعدة وخبراء طيران، مفادُها تشديدُ المراقبة الجوية، وإعلانُ نطاقِ حظرِ طيرانٍ حول “نادي الصنوبر/قصر الأمم”، وتعزيزُ الدفاع الجوي والدورياتِ القتالية.

والجزءُ الأكبر من هذه التفاصيل ورد بصيغة “رُصِد/أُبلِغ” لا بصيغة توثيقٍ رسمي منشور، وهو ما يفسّر غيابَ تسجيلٍ لاشتباكٍ جويٍّ معلَن، أو اختراقٍ مؤكَّدٍ للأجواء الجزائرية في تلك الأيام. ومع ذلك، تُظهر المادة المتاحة أن المقاربة الجزائرية اعتمدت الردعَ الاستباقي: ” لا عبورَ فوق سماء الجزائر، ولا مخاطرةَ بسلامة الوفود”.

يُفهَم هذا التشدّد الأمني في ضوء ذاكرةٍ إقليمية قريبة؛ ففي 1 أكتوبر/تشرين الأول 1985 شنّ سلاحُ الجو الإسرائيلي ضربةً على مقرّ منظمة التحرير في حمّام الشطّ قرب تونس، ووسمها بعملية “السيقان الخشبية” (Operation Wooden Leg)، التي أشرف عليها رئيس الوزراء شمعون بيريز. وقد أثبتت العملية قدرةَ سلاح الجو الإسرائيلي على تنفيذ ضرباتٍ بعيدة المدى، وأفضت إلى مقتل 68 شخصًا، بينهم نحو 50 فلسطينيًا، فضلًا عن إدانةٍ صريحة من مجلس الأمن بموجب القرار 573.

لم تكن هذه السابقةُ غائبةً عن صُنّاع القرار في الجزائر، فاستوجبَ الأمرُ تقديرَ موقفٍ صارم عند استضافة وفودٍ فلسطينية لإعلان قيام الدولة بعد ثلاث سنوات من حادثة حمّام الشطّ.

المعادلة الجزائرية: السيادة تستدعي الردع

هنا تبرز “المعادلة الجزائرية”، المتمثّلة في سيادةٍ غيرِ قابلةٍ للمساومة، وبنيةٍ أمنيةٍ راكمت خبرتَها منذ الاستقلال واشتدّ عودُها عقب تجارب مريرة، ورسالةِ ردعٍ خلاصتُها أنّ كلفةَ اختبارِ الخطوطِ الحمراء على التراب الجزائري ستكون سياسية وعسكرية باهظة.

ولذلك يبدو تاريخيًّا أن استهدافَ ممثّلٍ لفتح أو حماس في الجزائر شديدُ الصعوبة؛ فالدولةُ التي وفّرت منصّةَ إعلان الدولة الفلسطينية سنة 1988 أحاطت ذلك الأسبوعَ بمنظومةِ حمايةٍ متعدّدة، فيما ركّزت الصحافةُ الدولية آنذاك على آثار الإعلان السياسية أكثرَ من أي مؤشراتٍ لاشتباكٍ جويّ، وهو ما يُفهَم معه أن “حادثةَ اعتراض طائراتٍ إسرائيلية” -بمعناها العملياتيّ الضيّق- بقيت في حيّز الرصد والتقديرات لا في حيّز الاشتباك المثبت بأرشيفٍ رسمي معلَن.

الدرس المزدوج

نحن إزاء درسٍ مزدوج: أوّلُه سياسيٌّ مفادُه أنّ الجزائر تموضعت راعيًا لشرعيةٍ فلسطينيةٍ ناشئةٍ في لحظةٍ مفصلية؛ وثانيه أمنيٌّ يوضّح كيف تُترجِم الدولُ مفهومَ “السيادة” إلى إجراءاتٍ ردعيةٍ ملموسةٍ عندما يصبحُ الحدثُ بذاتِه هدفًا محتمَلًا. هذا المزيجُ بين الغطاء السياسي والحراسةِ الجوية يفسّر، إلى حدّ بعيد، رجحانَ تعطيلِ أي محاولةٍ لاستهداف ممثّلين فلسطينيين على الأرض الجزائرية في حسابات الخصم.

والمؤشّرُ المهمّ أنّ الجزائر لا تعتمد على المنظومات الدفاعية الأميركية أو الغربية عمومًا، بل تميلُ اعتمادًا كليًّا على المنظومات الروسية؛ وهو ما يمنح ضمانًا مقبولًا إلى حدٍّ ما، مع التذكير بأنّ الروس أنفسَهم خذلوا العراقَ وليبيا وسورية في محطاتٍ قريبة. ومن باب الردع المتين والاستعداد الدائم، يظلّ تنويعُ المنظومات الردعية —الصينيةِ والتركيةِ مثلًا— ضرورةً، مع العمل على تطوير منظومةٍ جزائريةٍ خالصة.

وقد أبانت تجربةُ الحرب بين باكستان والهند أنّ إسلام آباد لم تعتمد على المنظومات الدفاعية الغربية، بل اتّجهت إلى المنتجات الصينية والتركية وإلى منظوماتها الخاصة.

ما بعد “9 سبتمبر/أيلول 2025” في الدوحة

أظهرت ضربةُ 9 سبتمبر/أيلول 2025 داخل قطر —التي استهدفت قادةً من حماس— أنّ الكيان المارق مستعدٌّ لعملياتٍ بعيدة المدى حتى داخل دولٍ ترتبط بتحالفاتٍ وثيقةٍ مع واشنطن، وقد قوبلت العملية بتنديدٍ دوليٍّ واسع في مجلس الأمن وانتقاداتٍ صريحةٍ من حلفاء خليجيين، بما يُبرز حساسيةَ منظومة “الضمانات الأمنية” الغربية وحدودَها العملية.

والدروسُ المستفادة تُحَتِّمُ على الدول العربية والإسلامية الداعمة للقضية الفلسطينية أن تبقى في أقصى درجات الجاهزية، باعتمادِ ردعٍ طبقيٍّ مرن، وسياساتِ تنويعٍ في التسليح والتموضع القانوني والدبلوماسي. فالكيانُ المارق يرى نفسَه فوق القانون الدولي والأعراف، وقد يعلو علوًّا لم يبلغه من قبل؛ ويبدو أنّه العلوّ الثاني الذي ذكره الله في القرآن، لكنه سيكون العلوَّ الأخير: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾. [ الإسراء: 4]

Share on facebook
Facebook
Share on telegram
Telegram