ما قل ودل

رحيل الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي…صوت الحكمة وضمير الجزائر

شارك المقال

فقدت الجزائر صباح اليوم الأحد 05 أكتوبر 2025 أحد أعلامها الكبار، بوفاة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، الوزير والدبلوماسي والمفكر الوطني، عن عمر ناهز الثلاثة والتسعين عامًا، بعد حياة حافلة بالعطاء في ميادين النضال والسياسة والفكر والثقافة.

برحيل الإبراهيمي، تطوي الجزائر صفحة من صفحات جيلها الذهبي، جيل الرجال الذين ساهموا في بناء الدولة الجزائرية المستقلة على أسس من الوطنية والإيمان العميق بالهوية العربية الإسلامية. كان الفقيد رمزًا للاتزان والعقلانية، وصوتًا نادرًا جمع بين الفكر والسياسة والضمير الوطني.

وُلد أحمد طالب الإبراهيمي سنة 1932 بمدينة سطيف، في بيت علم وإصلاح. فهو نجل العلامة الشيخ البشير الإبراهيمي، أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى جانب الإمام عبد الحميد بن باديس.

نشأ في بيئة مشبعة بروح الدين والعلم والوطنية، فكان طبيعيًا أن يتكوّن وعيه السياسي والوطني منذ سنّ مبكرة. أكمل دراسته الثانوية في الجزائر، قبل أن يسافر إلى فرنسا لمتابعة دراسته العليا، حيث حصل على شهادة الطب وتخصّص في الأمراض العصبية.

لم يمنعه تفوقه العلمي من الالتحاق بصفوف الثورة التحريرية الجزائرية سنة 1956، إذ انخرط في العمل الوطني ضمن جبهة التحرير الوطني، مسخّرًا علمه وعلاقاته في أوروبا لخدمة القضية الجزائرية.

كان من الكوادر المثقفة للثورة التي ساهمت في التعريف بعدالتها في الخارج، ونقل صوت المجاهدين إلى الرأي العام الدولي.
تعرض خلال تلك الفترة للملاحقة والاعتقال من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية، لكنه ظلّ ثابتًا على مواقفه حتى نالت الجزائر استقلالها سنة 1962.

بعد الاستقلال، التحق الإبراهيمي بالحكومة الجزائرية، حيث أسندت إليه عدة مناصب وزارية هامة, ففي سنة 1965، عُيّن وزيرًا للتعليم، فكان من أبرز مهندسي سياسة التعريب وإصلاح المنظومة التربوية، إيمانًا منه بأن بناء الجزائر المستقلة يبدأ من المدرسة الوطنية التي تزرع في أبنائها روح الانتماء والكرامة.

وفي سنة 1970، تولى حقيبة الإعلام والثقافة، فعمل على بناء مؤسسات إعلامية جزائرية مستقلة، ودعم الإنتاج الثقافي الوطني، وسعى لترسيخ اللغة العربية كركيزة للهوية والسيادة الثقافية.

وفي الثمانينيات، شغل منصب وزير الشؤون الخارجية (1982–1988)، فكان وجه الجزائر في المحافل الدولية. دافع بشدة عن القضية الفلسطينية، وعن قضايا التحرر في إفريقيا والعالم العربي، وحافظ على مواقف الجزائر المبدئية في إطار حركة عدم الانحياز.

لم يكن أحمد طالب الإبراهيمي رجل سلطة فحسب، بل كان مفكرًا ومثقفًا موسوعيًا، كتب في قضايا الهوية، والعروبة، والإسلام، والعلاقات بين الشرق والغرب.

من أبرز مؤلفاته :«العرب والغرب: صدام أم لقاء؟”، حيث دعا إلى حوار متكافئ بين الحضارات, «من مشاهد النضال»، وهو شهادة فكرية عن مسار الجزائر ما بعد الاستقلال.

كان الإبراهيمي من دعاة الإصلاح السياسي المتدرج، ودافع عن المصالحة الوطنية بعد العشرية السوداء، مؤكدًا أن الجزائر لا يمكن أن تتقدم إلا بالحوار والوحدة ونبذ الإقصاء.

بعد نهاية الثمانينيات، ابتعد الإبراهيمي عن دوائر الحكم، مفضلاً العمل الفكري والسياسي الحر, في سنة 1999، أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية، لكنه انسحب مع مجموعة من المترشحين احتجاجًا على ظروف العملية الانتخابية.

ومنذ ذلك التاريخ، ظلّ رمزًا للمعارضة الهادئة والنقد البنّاء، داعيًا إلى إصلاح مؤسسات الدولة في إطار من السلم واحترام إرادة الشعب.

وفي السنوات الأخيرة، ظل صوته حاضرًا في الوجدان الوطني كأحد الوجوه الإصلاحية التاريخية التي حافظت على استقلالها الفكري ونزاهتها السياسية.

رحل الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي يوم الأحد 05 أكتوبر 2025، بعد مسيرة دامت أكثر من سبعة عقود من العطاء والفكر والنضال.
برحيله، تفقد الجزائر أحد رموزها الكبار، ورجلًا نادرًا جمع بين الطب والسياسة والفكر والثقافة، وظلّ طيلة حياته وفيًا لقيم نوفمبر ومبادئ والده الشيخ البشير الإبراهيمي، مخلصًا للهوية الجزائرية الأصيلة.

سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الجزائر، رمزًا للعلم والاعتدال والوفاء للوطن، وواحدًا من آخر الشهود على الجيل الذي صنع الاستقلال وساهم في بناء الدولة الجزائرية الحديثة.

Share on facebook
Facebook
Share on telegram
Telegram