تعيش فرنسا منذ منتصف عام 2024 على وقع أزمة سياسية متصاعدة تعكس عمق الانقسامات داخل المشهد الحزبي الفرنسي، وتراجع قدرة السلطة التنفيذية على تحقيق الاستقرار المؤسسي. وقد بلغت هذه الأزمة ذروتها مع استقالة رئيس الحكومة الجديد سيباستيان لوكورنو بعد أقل من يوم على إعلان تشكيل حكومته، في خطوة غير مسبوقة تؤكد هشاشة التوازنات السياسية التي تواجهها الجمهورية الخامسة.
خلفيات الأزمة السياسية
بدأت ملامح الأزمة تتبلور منذ قرار الرئيس إيمانويل ماكرون حلّ البرلمان في 7 جويلية 2024، في محاولة لإعادة تشكيل المشهد السياسي بعد تفاقم الخلافات بين الكتل البرلمانية. غير أن الانتخابات اللاحقة لم تُسفر عن أغلبية واضحة، مما أبقى البلاد في حالة جمود سياسي مزمن، إذ بات أي تشكيل حكومي رهينة للتجاذبات بين التيارات اليمينية واليسارية والوسطية.
كما ساهمت سياسات التقشف التي حاولت الحكومة السابقة بقيادة فرنسوا بايرو تمريرها في البرلمان في تأجيج الغضب الشعبي والسياسي على حد سواء، ما أدى إلى سحب الثقة من الحكومة، ودفع الرئيس إلى تكليف لوكورنو بتشكيل حكومة جديدة في 9 أيلول/سبتمبر 2024.
استقالة لوكورنو… مؤشر على تعمق الانقسام
بعد 14 ساعة فقط من إعلان تشكيل حكومته الجديدة، قدّم سيباستيان لوكورنو استقالته للرئيس ماكرون، مبرراً قراره بـ”تغليب المصالح الحزبية على المصلحة الوطنية”. هذه الاستقالة السريعة، التي جاءت بعد أسابيع من مشاورات شاقة، تمثل ضربة سياسية قوية للرئيس الفرنسي، إذ أصبح لوكورنو خامس رئيس وزراء يغادر منصبه خلال عامين فقط، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى استقرار النظام السياسي الفرنسي في ظل التوازنات الحالية.
وقد عكست ردود الفعل على التشكيلة الوزارية الجديدة رفضاً مزدوجاً من قبل المعارضة والموالاة على حد سواء، إذ اعتبرتها بعض الأحزاب اليمينية “غير محافظة بما يكفي”، فيما رأت القوى اليسارية أنها تمثل “انحرافاً نحو اليمين”، ما أدى إلى انهيار التحالفات المؤقتة التي كان يُعوَّل عليها لدعم الحكومة في البرلمان.
أزمة الشرعية التنفيذية وتآكل الثقة في النظام السياسي
تعكس استقالة لوكورنو أزمة عميقة في الشرعية التنفيذية، إذ باتت الحكومات الفرنسية المتعاقبة عاجزة عن حشد دعم برلماني مستقر، ما يهدد فعالية النظام شبه الرئاسي الذي يميّز الجمهورية الخامسة. كما أن تعدد الإخفاقات الحكومية خلال فترة قصيرة أضعف ثقة المواطنين بالمؤسسات السياسية، وزاد من حدة الاستقطاب الشعبي بين دعاة الإصلاح الاقتصادي ومناهضي سياسات ماكرون النيوليبرالية.
وتشير التحليلات إلى أن استمرار هذا الوضع قد يفتح الباب أمام تحولات سياسية جذرية في فرنسا، سواء من خلال تعديل دستوري أو عبر صعود قوى سياسية جديدة تستثمر حالة السخط العام.
آفاق المرحلة المقبلة
أمام هذه التطورات، يجد الرئيس ماكرون نفسه في وضع حرج، إذ يواجه مأزقاً مزدوجاً يتمثل في غياب الأغلبية البرلمانية من جهة، وتآكل الثقة في خياراته الحكومية من جهة أخرى. ومن المرجّح أن تلجأ الرئاسة الفرنسية إلى حكومة تكنوقراطية أو توافقية مؤقتة لتفادي شلل مؤسساتي طويل، في انتظار تهيئة الظروف السياسية لانتخابات تشريعية جديدة.
غير أن نجاح هذا الخيار يبقى رهيناً بقدرة ماكرون على استعادة الحد الأدنى من الثقة بين مكونات الطيف السياسي، وإقناع الرأي العام بأن مؤسسات الجمهورية لا تزال قادرة على ضمان الاستقرار والديمقراطية في آن واحد.
انسحاب لوكورنو يؤكد غياب التوافق الوطني
تُعدّ استقالة سيباستيان لوكورنو بعد ساعات قليلة من تعيينه تجسيداً واضحاً للأزمة العميقة التي تعصف بفرنسا منذ أكثر من عام. إنها ليست مجرد أزمة حكومية، بل أزمة نظام سياسي يعيد اختبار قدرته على الصمود أمام التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتسارعة. وفي غياب توافق وطني واسع، تبقى فرنسا أمام مرحلة مليئة بالضبابية، قد تعيد صياغة معادلات السلطة ومستقبل الجمهورية الخامسة برمتها.