تتجدد الانتقادات الموجهة إلى السياسة الفرنسية في إفريقيا، وهذه المرة من مدغشقر، حيث تعالت أصوات شعبية وسياسية تطالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتقديم اعتذار رسمي عن ما تعتبره نوايا “نيوكولونيالية” تسعى لإعادة إنتاج الهيمنة الفرنسية في القارة. يأتي هذا في سياق إقليمي متوتر تشهد فيه العلاقات بين فرنسا وعدة دول إفريقية تحولات جذرية نحو فك الارتباط بالمنظومة الاستعمارية القديمة.
خلفية تاريخية
كانت مدغشقر، التي خضعت للاستعمار الفرنسي بين عامي 1896 و1960، من أبرز المستعمرات التي شهدت مقاومة شرسة ضد الوجود الفرنسي، بلغت ذروتها في انتفاضة عام 1947 التي قُمعت بوحشية، وأسفرت عن عشرات آلاف الضحايا. وعلى الرغم من استقلال البلاد رسميا، فإن الإرث الاستعماري ظل حاضراً في البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما جعل العلاقة بين باريس وأنتاناناريفو علاقة غير متكافئة تقوم على النفوذ الثقافي والاقتصادي المستمر.
المَلغاشيون يطالبون باسترداد جزر إيرو
خلال الأشهر الأخيرة، تزايدت الانتقادات داخل الأوساط المدنية والسياسية في مدغشقر ضد ما اعتبره ناشطون ومحافظون “وصاية فرنسية جديدة” تتجلى في تدخل باريس في شؤون البلاد الداخلية، وفرضها شروطاً اقتصادية عبر المساعدات والتعاون المالي.
ويعتبر المحتجون أن تصريحات ماكرون الأخيرة حول “ضرورة تعزيز الحضور الفرنسي في المحيط الهندي” تعكس فهماً استعلائياً للعلاقات مع الدول الإفريقية، وتكشف عن استمرار الذهنية الاستعمارية تحت غطاء “الشراكة والتعاون”.
كما أثار موضوع جزر إيرو (Îles Éparses)، الواقعة بين مدغشقر والساحل الشرقي لإفريقيا والخاضعة حالياً للسيادة الفرنسية، غضباً شعبياً واسعاً، حيث يطالب المَلغاشيون بإعادتها باعتبارها جزءاً من أراضيهم التاريخية.
ضغط الشارع يهزم خطاب الحكومة المالغاشية
رغم محاولات الحكومة المالغاشية اعتماد خطاب دبلوماسي متزن، فإن ضغط الشارع ومنظمات المجتمع المدني ازداد، مطالباً بقطع أي اتفاقيات “غير متوازنة” مع باريس.
ونظّم ناشطون مسيرات في العاصمة أنتاناناريفو رافعين شعارات مثل “كفى وصاية فرنسية” و “مدغشقر ليست مقاطعة لفرنسا”. كما دعت شخصيات أكاديمية وثقافية إلى مراجعة العلاقات الثنائية على أسس الندية والاحترام المتبادل، بعيداً عن منطق “الإملاء السياسي والاقتصادي”.
الدبلوماسية الفرنسية تعجز في احتواء الأزمة
من جانبها، حاولت الدبلوماسية الفرنسية التخفيف من حدة الانتقادات بالتأكيد على “التزام فرنسا بدعم التنمية في مدغشقر” و”احترام سيادتها”، غير أن هذه التصريحات لم تنجح في تهدئة الغضب الشعبي، خصوصاً في ظل ما يعتبره المراقبون “تناقضاً بين الخطاب والممارسة” في السياسة الخارجية الفرنسية.
التغيرات الجيوسياسية تسير عكس تيار فرنسا
يمكن فهم هذا الحراك ضمن سياق أوسع من إعادة تشكيل العلاقات الإفريقية-الفرنسية في مرحلة ما بعد “فرنسا الإفريقية” (Françafrique). فالتغيرات الجيوسياسية، وتنامي الوعي الوطني في الدول الإفريقية، وسقوط عدة أنظمة موالية لباريس، كلها عوامل تدفع الشعوب إلى المطالبة بمراجعة شاملة للعلاقات مع المستعمر السابق.
ويرى باحثون في العلاقات الدولية أن الخطاب المالغاشي الأخير يمثل انتقالاً من مرحلة التبعية الرمزية إلى مرحلة المطالبة بالاعتراف والاعتذار التاريخي، وهو ما يعكس وعياً متزايداً بضرورة استعادة السيادة الثقافية والاقتصادية.