احتفال قصر الإليزي بذكرى اتفاقية إيفيان 19 مارس الذي طالبت به منذ أعوام جمعيات الأقدام السّوداء، وتضمّنه برنامج تقرير بن جامان ستورا من بين اقتراحات أخرى يراها من أجل “الذّاكرة المشتركة” أو “المعتدلة” أو “التّعايش” هناك نُعوتٌ كثيرة تتضمّن هذا المعنى مقابل نُعوت “الذّاكرة المريضة” أو “المجْروحة” أو “العدائية”.
يتزامن مع حرب روسية-أو كرانية تعيد للأذهان مآسي الحرب وذاكرة بعض القوميين الفرنسيين في وصول جحافِل جيوش نابليون تخوم موسكو، وانتخابات رئاسية فرنسية يتغذّى بعضهم من قضايا الهُوية والذّاكرة وعلاقة فرنسا بالجزائر وقضايا الحركى والأقدام السّوداء.
كما تبلغ الكراهيّة لفرنسا الحناجر في مالي وبعض البلدان الإفريقية وتكون وقوداً شعبياً لتأييد عسكر انقلابيين رأوا فشل فرنسا في القضاء على الإرهاب، ومأزق الغرب في العجز أو التعاجز عن مساعدة إفريقيا على تخطّي إرهاب الجوع والفقر والتبعية والاقتتال الإثني والدّيني .
ما قام به قصر الإليزي بالتطبيق الحرْفي لمقترحات تقرير المؤرخ اليهودي الجزائري –الفرنسي الذي كان ضحيّة التاريخ غير العادل في الغُبن الذي لحق عائلته بعد الاستقلال وتخلّي فرنسا عن اللاجئين ووضعهم في غيتوهات، يعتبره بعضهم خطوات بِنيّة حسنة نحو “الاعتراف” الذي يقتضي “الاعتذار” و”الإنصاف” وليس بمعنى “التّوبة”.
ويتجاهل الطّرف الجزائري ذلك لأنها خطوات من أجل “ذواكر جماعيّة فرنسية” تعانيها السياسة الفرنسية ومستقبل أمتها، فهي علاج لجروح الحركى وأبنائهم والأقدام السّوداء والمحاربين الفرنسيين القدامي، ومن بين تلك الخطوات الاحتفال السنوي ب19 مارس و 25 سبتمبر يوم تكريم الحركى و17 أكتوبر 1961 قمع العمال الجزائريين في فرنسا (وهذا موجه طبعاً للمهاجرين الجزائريين) .
إضافة إلى تشكيل لجنة “الذاكرة والحقيقة” تتكوّن من شخصيات فرنسية وجزائرية منخرطة في الحوار من أجل تجاوز “نزيف الذّاكرة الدّموي” ، وهناك اقتراحات رمزية أخرى مثل نصب تذكاري للأمير في امبواز واسترجاع رفات من دفنوا من عائلة الأمير في هذا القصر أثناء السجن، وإعادة سيف الأمير ومدفع “بابا مرزوق”.
وهناك اقتراحات – كما هو معروف- تتعلق بمقابر المسيحيين واليهود بالجزائر وتبادل الوثائق والأرشيف ودخول وتنقل الحركى وأبنائهم في الجزائر، وتسهيل البحث العلمي في التاريخ لهذه الحقبة وتشجيعه.
تفاصيل المشروع الذي وضعه بن جاما ستور والذين اشتغلوا معه يطبقه إيمانويل ماكرون والإليزي ولكن الإعلام الفرنسي للأسف في الأسابيع الأخيرة وخصوصاً قناة فرنسا 2 ، ليس هي نفس روح تقرير ستورا من أجل علاج “الذاكرة المريضة”.
بل مازال هذا الإعلام الذي يسيطر عليه مجموعات معادية للجزائر وإفريقيا تنظر إلى “ثورة التحرير” على أنها عنف وإرهاب، وتعيد خطاب العداء والتشويه، ويتناسى أو يتعمد ذلك بعض الكتاب والإعلاميين والمترشحين اليمينيين للانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة أنّ الحرب كانت بين جيش منظم ينتمي لدولة قائمة فرنسا لها عهود ومواثيق لم تحترمها ومجوعة من المواطنين (الأهالي) تقاتل عن حقها في الاستقلال والكرامة.
ولذلك المحاسبة والمسؤولية لن تكون بمعيار النّدية حتى نقارن وحشية فرنسا وجرائمها بما حدث أثناء معركة الجزائر من قنابل تفجرت في بعض النوادي أو ما حدث لبعضهم من الأقدام السوداء وهي حوادث معزولة؟ .
مهما كان الاختلاف في الرّؤية للتّاريخ غير أننا ننصف المؤرّخ ستورا فقد كانت مواقفه وتدخلاته الأخيرة فيها أمانة المؤرخ والمسؤولية العلمية، فهو يقول أن الجرائم لا ترتبط فقط بحرب السبع سنوات ولكن بقرن وثلاثين سنة .
كما أكرر تقديري له لأنه يقرأ التاريخ بمنهجية علمية فيها تكامل علمي فهو يستعين بالفلسفة وعلم النفس والاجتماع، فهو ثمرة “مدرسة الحوليات” والاتجاه الفكري الذي برز في أحداث ماي 1968، والرؤية التّأويلية الجديدة التي أبدع فيها الفيلسوف بول ريكور أستاذ إيمانويل ماكرون