الدكتور عابد حميان -أستاذ بجامعة وهران-
منذ مطلع القرن العشرين، أنجبت المدرسة السوفيتية-الروسية في مجال الدراسات العسكرية والجيوبوليتيكية شخصيات أكاديمية ذات صيتٍ عالمي أسهمت بنظرياتها في صياغة التوجّهات الإستراتيجية الكبرى للبلد في أذهان صنّاع القرار الروس.
ولعلّ أشهرها وأهمّها تلك النظريات المُحاجِجَة بقدرة وقوّة البَرِّ الروسي (التيلوروكراتيا) على مواجهة قوى البحر الغربية المناوئة (التالاسوكراتيا/ ثمّ قوى الجو والفضاء لاحقًا: الآيروكراتيا والأثيروكراتيا).
وهزيمتها في معركة السيطرة العالمية، إذ طالما اختُصِرَ تاريخ الجيوبوليتيك الكلاسيكية في ذلك الصراع الثنائي بين قوى البرّ وقوى البحر على السيادة العالمية.
ولعلّ شخصية البروفيسور ألكسندر دوغين وكتابه (أسس الجيوبوليتيكا مستقبل روسيا جيوبوليتيكي) التي تُعَدّ أكثر الشخصيات الجيوبوليتيكية الروسية المعاصرة شهرةً، وهو الذي وصفته أوساط عالمية كثيرة بأنّه العقل الجيوبوليتيكي الأوّل الذي يقف وراء التوجّهات الإستراتيجية الكبرى لروسيا المعاصرة، كما يُعبِّر عنها الرئيس فلاديمير بوتين في سلوكات بلدِه الخارجية منذ وصوله إلى الكرملين سنة 1999.
بعد أن تُعطي هذه الدراسة فكرةً شاملةً عن أثرِ أبرزِ المراكز البحثية الروسية والتيارات الفكرية-النظرية (في مجال الجيوبوليتيك والدراسات الدولية) في صانع القرار السوفيتي والروسي على حدٍّ سواء- تسعى بشكلٍ مركّزٍ إلى استخلاص علاقة الأثر والتأثير بين “عالَمِ دوغين النظري” و”عالَم بوتين الميداني” .
منذ مطلع الألفية الجديدة للقرن الحادي والعشرين , أيْ مناقشة تلك العلاقة الجدلية بين رجل الأكاديميا الروسي وصانع القرار في الكرملين , وحدود تأثير الأول في الثاني , أو توجيه الثاني للأول، استخدامه وفقًا للمصالح العليا للبلاد، مُناقِشةً.
أمّا ولادةُ الفلسفة الأوراسية فيُرجعها البعض إلى سنة 1921, حينما نشر مجموعة من المفكّرين الروس المنفيين , طائفة من المقالات تحت عنوان كبير اسمه: “النزوح إلى الشرق”.
حاول هؤلاء إبراز فكرةٍ مفادها أنّ جغرافية روسيا تُمثّل مصيرها , ومن ثَمّ لا يوجد أيّ داع لأيّ حاكم بأن يفكّ نفسه من ضرورات تأمين أراضيه , ونظرًا لشسوع روسيا فقد آمنوا بأنّه يجب على قيادتها التفكير بشكل إمبريالي , من خلال القضاء على الشعوب الخطيرة في كلّ الحدود واستيعابها.
في الوقت نفسه عَدُّوا أيَّ شكل من أشكال الديمقراطية , كالإقتصاد المفتوح , والحوكمة المحلية أو الحرية العلمية خطرًا عالي المستوى , وغير مقبول البتّة. في هذا الصدد، عدَّ الأوراسيون بيتر الأعظم -الذي حاول أن يجعل روسيا أوروبيةً في القرن 18م- عدوًّا وخائنًا.
وفي المقابل , نظروا باحترامٍ إلى حكم التتار-المغول بين القرنين 13م و15 م- حينما لقنّت إمبراطورية جينكيز خان الروس دروسًا حاسمةً بخصوص مسألة بناء دولةٍ قويّةٍ ومتمركزةٍ , ونظامٍ هرميٍّ من الطاعة والسيطرة.
اعتقد الأوراسيون أنّهم كسبوا تأييد أتباعٍ أقوياء بين النشطاء السياسيين للمجتمع الصاعد , أو ما يُسمّونهم بالروس البيض، الذين يتميّزون بحرصهم على دعم أيّ بديلٍ عن البلشفيين , إلّا أنّه تمّ تجاهل هذه الفلسفة تمامًا , بل تعرّضت للضغط في الاتّحاد السوفيتي , وعمليًّا ماتت مع منشئها. كان ذلك إلى غاية سنوات التسعينيات حينما انهار الاتّحاد السوفيتي , كما مُحِيَ السجل الأيديولوجي الروسي بشكل تامّ.