الجزء الأول
قصتنا اليوم ارتأينا أن نحكيها مثلما سمعناها من أحد الذين عاشوها و مثلما تكّلمنا في السابق فنحن نبحث في لّب القصص الآنية للتوبة و العودة للطريق المستقيم , بما أن قصص الصحابة و الأسلاف يعتبرها البعض من القصص الضاربة في عمق التاريخ و أن إنجازات السلف الصالح لا يمكنها أن تتكّرر في وقتنا الحالي , لكن نحن نؤمن بما جاء في الأثر مصداقا لقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم في الحديث الشريف “لن ينقطع الخير في أمتي إلى يوم الدين ” .
و عملا بهذا الحديث لا تزال بعض الوجوه النيّرة تدعو لدين الله بالترغيب و ليس بالترهيب و في بلاد الإلحاد و الكفر حيث استطاعوا أن يدخلوا المئات إلى دين الله الحنيف , و لعل أبرز قصة و أغربها و أجملها هي التي سنحكيها في هذا المقال .
مجريات القصة مثلما سمعتها من أحد المشاركين فيها كانت خلال بداية الألفية الحالية , حيث يحكي المعني بأنه دكتور في أحد المستشفيات قطع على نفسه برفقة خيرة كوادر المجتمع أن يقضوا عطلهم السنوية ليس في التنّزه عبر الشواطئ العالمية أو زيارة المارينات و القرى السياحية , بل في الدعوة لدين الحّق و التعريف بسماحة الإسلام بلا غّلو و لا تعّصب و عرضه على غير المسلمين .
يقول دكتورنا الذي تحّفظ على ذكر اسمه و هويته لكي يجعل عمله خالصا لوجه الله تعالى , أنه في أحد السفريات التي قادتهم نحو فنزويلا و هي بلاد واقعة في جنوب القارة الأمريكية التي تكنّى بأمريكا اللاتينية , و عند استفسارنا عن سبب اختيار هذه المنطقة بالذات أجابنا المعني بأن الإختيار سببه الإرتباط التاريخي .
فمثلما يعلم البعض أن بقايا الموريسكيين أو المنّكل بهم و المعذّبين من بقايا سكان غرناطة التي سقطت سنة 1492 عقب حروب الإسترداد التي خاضها الملكان الكاثوليكيان فيرناندو و إيزابيلا , إضطر بجموع ما تبقى من المسلمين إلى هجرة غرناطة و الجنوب الأندلسي بسبب بشاعة محاكم التفتيش التي قتّلت و صلبت و عذّبت المسلمين لأجل ثنيهم عن البقاء على الإسلام و إعتناق المسيحية غصبا .
لذا فهؤلاء الدعاة فضّلوا فنزويلا التي ترتبط أيضا بأسماء عائلات مشرقية معظمها سورية و لبنانية تاهت أصولها و ديانتها مع البقاء لعدة أجيال في العالم الجديد , و بدون إطالتنا قصتنا تبدأ عندما وصل الدكاترة الدعاة لفنزويلا و هنا بعد يوم من الراحة في أحد الفنادق جلبوا الدليل الهاتفي للعاصمة كراكاس و بدأ التدقيق في الأسماء ذات الهوية العربية .
هنا وجدوا العديد من الأسماء التي توحي بالأصل العربي و كانت البداية مع مهاتفة إحدى العائلات , و اتضح أنها من كبار أصحاب الثروات في هذا البلد فهم شركاء إقتصاديون مهمّون و لهم شركات كبيرة في هذا البلد الجنوب أمريكي و بدأت المحادثة .
أولا عرّف المعنيون بأنفسهم و بعد تبادل الأحاديث طلب منهم صاحب المنزل الحضور و استضافهم على قعدة شاي , و كأن خصلة الضيافة بقيت تحتفظ بها هذه العائلة ذات الأصل العربي من جيل لآخر عبر التواتر و التوارث .
محدثنا يقول بأنه عندما استفسر المعني خلال جلسة الشاي التي تطورت لمأدبة عشاء , قال لهم صاحب المنزل أنه لا يعلم الكثير عن أصوله إلا طراطيش كلام سمعها من والده الذي توفي منذ زمن علما أنه يدين بالكاثوليكية كما قال أبا عن جد .
لكن المعني قال لهم بأن له جّدة يحترمها الكبير و الصغير في العائلة و تملك حتى بعض الوثائق , يمكن أن تعرضها عليهم للإطّلاع عليها ما دامت يقول مكتوبة بلغة مبهمة لم يستطع أي فرد من العائلة فّك رموزها منذ مئات السنين .
و اتفق الطرفان على اللقاء مرة أخرى لكن هذه المرة كان اللقاء بحضور جميع أفراد العائلة الكبيرة من صغيرها لكبيرها , و بالطبع بحضور السيّدة العجوز التي سبق و أن تحّدث عنها صاحب البيت الفنيزويلي , هنا قامت السيدة العجوز التي لها هيبة و طاعة كبيرتين في أفراد عائلتها مثلما تقتضيه مكاسبها العربية التي تضرب في أعماق التاريخ .
فحدّثثهم السيدة العجوز التي فاقت التسعين سنة لكنها لم تفقد شيئا من ذاكرتها , بأن جدّها كان يحكي لها قديما بأن أجدادهم قدموا إلى فنزويلا هربا من محاكم التفتيش في الأندلس و بأنهم سليلو إحدى كبار العوائل في الأندلس , و تضيف المعنية بأن بحوزتها كتابين ظلت العائلة محافظة عليهما منذ أجيال و كابر عن كابر .
و عندما طلب محدثنا و الجماعة التي كانت معه الإطلاع على الكتابين التي جلبتهما و هما ملفوفين في قطعة قماش فاخر معتبرة إياهما شيئا ثمينا يخص عائلتها , كانت الطامة الكبرى و الكارثة العظمى التي لم يتوقعها أحد , حيث كان أحد الكتابين عبارة عن مصحف قرآن مكتوب بخط اليد و بطريقة أندلسية قديمة جدا و هو الأمر الذي أكّد بأن للعائلة أصول إسلامية و صّعب الأمر على الدعاة لإيصال الرسالة لهؤلاء أسلاف المعّذبون في الأرض و المهّجرين ظلما و عدوانا .