ما قل ودل

من تأليف عضو المجلس الأعلى للغة العربية البروفيسور سعاد بسناسي…المكتبة النقدية تتزود بكتاب سيمياء الملفوظات السردية

شارك المقال

حظيت الرّواية – من المبدعين والقرّاء – بمنزلة ذائعة الصّيت في مقابل بقيّة الأجناس الأدبيّة الأخرى؛ بمقتضى أنّها تُسهِم في تحفيز الخيال، وتوسيع دائرة المعرفة، وإكساب وفير الخبرة الثّقافيّة، وذلك لما تتميّز به من خصوصيّات فنيّة وجماليّة، والقدرة على استيعاب مختلف الأجناس الأدبيّة، وغيرها من المعارف والعلوم والفنون؛ ممّا جعلها تخترقُ حدودَ وعي المتلقّي؛ بفضل تنامي دلالات نصوصها، وتكثيف أحداث خطاباتها، ونموّ وقائع مضامينها المتنوّعة.

يتحقّق نسيج الملفوظات من خلال الأفعال السّرديّة، التّي تؤكّد أهمّيتها في الوظيفة التّقييميّة، قياسًا إلى وجهة النّظر المستندة إلى مواقف الشّخصيّات الثّقافيّة والاجتماعيّة؛ على الرّغم من أنّها تحتفظ بالوقائع والأحداث التّخييليّة، لتصبح منجزاتها متدرجة من الواقع المعمول إلى الواقع المأمول، ومن زمن الماضي إلى الحاضر؛ سعيًا إلى أن تتجسَّد في الذّاكرة الثّقافيّة بأشكال سرديّة، تحمل قرائن مُدْرِكةً استخلاص صلات السّرد الوثيقة بالأفعال الكلاميّة المرتبطة بالسّارد، وذلك ما يجعلنا ننتبه إلى الدّلاليّة التّعاقبيّة، التي تتضمّنها الرّؤية، بوصفها تقنيّة تعمل فيها الدّوال المتجاورة دور التجْلية، بدافع الرّغبة في الكشف عن الدّلالة الكاملة؛ لاكتساب المعنى القرائنيّ بين خطّية اللّغة في الملفوظات، وما تشير إليه الكناية عن طريق التّجاور، وليس لدلالة الملفوظات السّرديّة سوى أن تتآلف مع ما تُشير إليه رغبة الشّخصيّات في توصيل رسائلها المعبّرة عن هموم الذّات والواقع، وربط الوعي بقضاياه الاجتماعيّة.

لعلّ ما جعلنا نُولي الاهتمام لدراسة الملفوظات السّرديّة – بتنويعاتها، وتشكيلاتها في الرّواية العربيّة المعاصرة – أنّ كتابة الأعمال السّرديّة تعزّز من أهمّية التّواصل، الذي تتميّز به مختلف أنواع الملفوظات اللّسانيّة، بما في ذلك نزوع بعض الشّخصيّات – في مواقف معيّنة – إلى التّبصُّر بالمقدار الذي يشيرُ إليه الصّمت المعبّر عن تدفّق العواطف، ومن ثمَّ يكون لزوم التّواصل بالملفوظات، وما تعبِّر عنه الطّويّة بـما يسمّى “لغة الصّمت”، متضافرًا لرسم دلالة الرّسالة، وأداة قابلة للتّبليغ؛ إذ الملفوظ، والمسكوت عنه، ليسا متباينين، أو متفاوتين في العمل السّرديّ، فهمًا وتأويلاً، وهو ما شكَّل نهضةً إبداعيّةً فنيّةً، وتحوّلات واضحة في مسار الرّؤية السّرديّة العربيّة، التّي واكبت واقع مجتمعاتها وتمثّلات ذلك من خلال ما تمّ صوغه من صور ارتسمت ملامحها في شخصيّات الرّوايات، التّي اعتمدناها، فضلاً عمَّا تحرّكه الشّخصيّات من أزمنة، وأمكنة، غالبًا ما تنزاح عن مستوى الموجود والواقع إلى مدلولات متفاوتة المرجعيّات؛ ممّا يحيل القارئ إلى التّأويل الذّي يراعي إعمال النّظر بالتّدبّر والتّأمّل، على نحو ما أشار إليه (تودوروف) بوصف المعنى للشّيء هو ما يؤدّيه من وظائف، تدخل في علاقة العناصر بعضها ببعض؛ إذ تقوم على أدلّة، وبراهين، السّياق التّواصليّ، وبذلك يدخل العمل الأدبيّ في علاقة مع القراءة المتبصِّرة، المبنيّة على كشف المعنى المغيَّب قسرًا.

يتشكّل المسار السّرديّ من خلال تتابع البرامج السّرديّة البسيطة أو المركّبة، ويضمُّ هذا البناء جملة من الأدوار الفاعليّة، لتبيان حالات الشّخصيّة التّي ترتبط بالموضوع، وما تعيشه من تحوّلات متعاقبة، تُوصلها إلى ما تسعى إليه من تحقيق البُغية، والتّطلّع، وهو ما جعلنا نركّز في هذا العمل على أربعة مرتكزات رئيسة تندرج تحتها تفريعات حسب ما يقتضيه المقام، وضرورة التّمثيل، وموجبات التّطبيق، وتتمثّل في تداوليّة الملفوظات السّرديّة ودلالاتها، ومقارباتها بما تتضمّنه ممّا يُقتدَى به من مرجعيَّة ثقافيّة، وما تهدف إليه من تحقيق تفاعلات عبر تلك الدّلالات في سياقتها السّرديّة الواردة ضمنيًّا، وذلك ما تؤدّيه تنوّعات أساليب الملفوظات، وأحداث المقاطع السّرديّة بتشكيلاتها المتمايزة، مرورًا بحديث البوليفونيّة.

والتّركيز على ما له صلة بالموازنات الصّوتيّة، وتساوقها، وتقسيماتها، وصولاً إلى الوظيفة التّواصليّة في الملفوظات السّرديّة، وانتهاء إلى علامات الملفوظات ودلالاتها من خلال أنواعها الوظيفيّة في الرّؤية السّرديّة، التّي رجعنا إليها؛ في مثل روايات نجيب محفوظ، والطّاهر وطّار، وواسيني الأعرج، وعزّ الدّين جلاوجيّ، ومحمّد ساري، وصنع الله إبراهيم، والحبيب السّائح، وغادة السّمّان، وأحلام مستغانميّ، وغيرهم ممّن وجدنا في نصوصهم مبتغانا؛ لجني محصول هذا البحث، على ضوء ما جسّدته القيمة التّحليليّة من تحوّلات دلاليّة لتلك الرّوايات بآفاقها المتنوّعة، وبمقوّماتها الفنيّة، وتنوّع حواراتها، بدافع تمثّل ديناميّة الرّؤية السّرديّة، الخاضعة لعوامل فكريّة وثقافيّة وحضاريّة واجتماعيّة، وغيرها من حدود التّأويل في الممكنات الدّلاليّة للملفوظات، والآفاق التّداوليّة غير الكلاميّة، التّي تنطلقُ أساسًا من بعض التّفاصيل الماثلة ضمن السّياقات الوصفيّة للملفوظ، نستخلصها في أثناء تحليل بنياتها السّرديّة، وربط ذلك “بالإحالة”، خاصّة حينما تتمّ دراسة ترتيب عناصر هذه الملفوظات، بحسب وظائف “الارتداد التّكميليّ”، الذّي من شأنه أن يسدّ فجوات السّرد؛ نتيجة التّضمين، أو الإضمار، في حال حجب الكاتب جملة من الصّيغ اللّفظيّة، أو بعض الأحداث عن قصد؛ كأن يتمّ – مثلاً – تجاوز مرحلة معيّنة لتحقيق رغبات الذّات الفاعلة، التّي تستند إلى “إرادة الفعل” المرتبطة بكفاءات تؤسّس لتلك الذّوات الفاعلة.

ويقوم ترتيب المقاطع الزّمنيّة وفق نظام تتابع الأحداث، وما ينتج عن ذلك من تأمّل في وظيفة الملفوظ السّرديّ، وتحوّلاته من خلال ما توضّحه صورة الارتداد والاستباق في ربط حالات السّرد ومستوياته، باعتبار علاقة الأحداث وزمنها بزمن الرّواية، إن كان سابقًا أو لاحقًا، ممّا تحدّده الملفوظات الزّمنيّة في النّص، وهذا ما يؤكّد أهمّية “المفارقات الزّمنيّة” لتحديد الدّلالات السّياقيّة، وتفاعل تلك العناصر السّرديّة مع جملة الوظائف التّي تؤدّيها الأسس البنائيّة في الرّواية، ونشير – هنا – إلى أنّ فلاديمير بروب (V. Propp) فصَّل في ذكر هذه الوظائف، ووصل بها إلى إحدى وثلاثين وظيفة ممّا تتّسع له الحكايا الشّعبيّة، فتُشكّل بذلك “دوائر” (Sphères) خاصّة حينما تتفاعل عدّة وظائف في نصّ واحد، وتنسجمُ لتنتج دوائر تتطابق وشخصيّات الرّواية في مثل دائرة البطل، ودائرة المرسِل، ودائرة المساعد، وغيرها من الدّوائر التّي تُمليها الأنساق النّصيّة وجماليّاتها الفنيّة الإبلاغيّة.

يستدعي المكوّن المفلوظيّ ما يستحقّه من اهتمام في الرّؤية السّرديّة؛ مع اختلاف الدّلالات الوظيفيّة لكلّ ملفوظ، كملفوظ الإصلاح، وملفوظ الاضطراب، وملفوظ الإضمار بأشكاله المتعدّدة، وإشاراته الزّمنيّة المحذوفة، ودلالاتها، وملفوظ الإفاضة التّي يدرجها (جيرار جينيت) ضمن مقولات الصّيغ وتغيّراتها، حين تتجاوز حدود ما يسمحُ به صنف التّبئير في مقطع سرديّ، دون غيره من المقاطع، ويتمّ بذلك تجاوز التّبئير الخارجيّ وصولاً إلى التّبئير الدّاخليّ؛ لصلته بأفكار االشّخصيّات وتصرّفاتها في الرّواية. وتقتضي السّرديّات التّلفّظيّة – بما تشمله من مستويات الملفوظات السّرديّة ووظائفها – الحديث عن التّلفّظيّة بالامّحاء التّلفظيّ، بوصفه خطّة توحي بالموضوعيّة من أجل لفت الانتباه وتفويض التّبئير إلى ذوات غير محدّدة، وحينئذ يكون الامّحاء التّلفظيّ لعبة تؤدّيها الذّوات المتكلّمة في الرّواية بملفوظات تربطها علاقات وقوانين لغويّة.

وتستندُ إلى مقوّمات نصيّة وخصائص شكليّة، تُحدّد العلاقة بين ملفوظات الرّواية، وهي تحتكم إلى جملة من المعارف الثّقافيّة المشتركة بين المتخاطبين، وتكون بذلك مؤثّرة في إنجاز الخطاب الرّوائيّ، وتأويله، مع مراعاة وضعيّات العمليّة السّرديّة، سواء عبر لغة الخطاب والتّخاطب، أم لغة الصّمت، أي المسكوت عنه بالاستِتَار أو الإضمار؛ لتحقيق مقاصد الرّؤية السّرديّة ومدى إدراك الصّورة التي يكوّنها المتلقّي من خلال الفعل الذي يفرضه تلفّظ الصّوائت والصّوامت في شكل مقاطع وظيفيّة على وَفق ما يقوم عليه النّظام السّرديّ لتوزيع الملفوظات، وتتابع الأحداث بحسب مسارات محدّدة، أو ما تقتضيه البرامج السّرديّة من تحوّلات، وأدوار فاعليّة، مع ضرورة تحديد المستويات السّرديّة للنّصوص، انطلاقًا من مبحث مقولة الصّوت الذي يُحيلنا إلى ضرورة التّفريق بين مستويات الإنتاجيّة النّصيّة وصيغ التّلفّظ وأنماط الخطاب.

Share on facebook
Facebook
Share on telegram
Telegram