بعدما اندلعت الحرب العالمية الأولى بسبب فتى يسّمى غافريلو برنسيب يقال أنه اغتال بسبب أو غير سبب الأرشيدوق فرانتس فرديناند وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية تحت طلق ناري غادر, و بعدما هجم هتلر على بولونيا بدون سابق إنذار معلنا بداية أولى شرارات الحرب العالمية الثانية, تبّدل المنطق هذه المرة, أين بدأ تسخين البندير لما يشاع بأنه حرب عالمية ثالثة بإذكاء نار الفتنة بين الدول و دفعها إلى التصارع بينما تبقى القوى الخفية المديرة للصراع خارج الحلبة على هيئة المراهنين في بطولات العالم للملاكمة, فمن يرهن حظوظه أكثر و يستنفر أمواله أكثر تكون النتائج لصالحه بطبيعة الحال.
و على هذا المنوال يشهد العالم و الجميع يقبض أنفاسه أولى طلائع لهيب حرب عالمية قادمة لن تبقي حسب آراء الخبراء أمامها و لا وراءها لا أخضر و لا يابس, و ستظل البشرية تتّحسر على أيام كان الأوكسجين و الماء فيهما بالمجّان.
الغرب يلعب بيد من حديد في قفاز من حرير
فالحروب القادمة مثلما تبدأ بالقوى الناعمة إلا أنها تستند إلى مشروع يد من حديد داخل قفاز من حرير, و رغم لعب القوى المحّركة للفتن العالمية دور إشعالها و من تم إطفاءها قصد قضاء مصالحها, فلن يدوم هذا المنطق لأن التسّتر خلف الستار لن يطول, فمثلما للحروب سيفا فإنه حتما للشيطان طيفا, و سيّنجر هذا الطيف دونما شك نحو مستنقع المعارك عاجلا أو آجلا.
فعلى عكس المواجهات العسكرية المباشرة بين الجيوش خلال الحربين العالميتين الأولى و الثانية تطورت فنون الحرب الاستباقية من الجوسسة إلى اللعب على أوتار التغلغل عبر سموم ناعمة تسقى من خلالها الشعوب حتى الثمالة و التي يتحول الحمقى من أفرادها دون سابق إنذار إلى عملاء يساهمون بغير وعي منهم في إدارة حروب تستنزف الأمم من الداخل.
منطق المليار الذهبي يحّرك الدمى من وراء الستار
و يبدو أن المؤشرات التي حتما ستؤدي إلى اندلاع الحرب العالمية التي يخشاها كل من على الأرض إلا أصحاب منطف المليار الذهبي بطبيعة الحال الذين يريدون استنزاف العامل البشري كي يبقوا أسيادا, هي الحرب الإلكترونية التي باتت تلعب دور فرق الإستكشاف التي كانت ترسلها الجيوش فيما مضى لاستطلاع قدرات العدو.
و في الوقت الراهن أصبحت الحرب الإلكترونية أو ما تعرف اصطلاحا بحروب الجيل الخامس هي بمثابة الفتيل الذي عقب إشعاله تندلع الحروب بدون سابق إنذار.
الحرب الإلكترونية سيدة الموقف
فما يجري في عالمنا و بالنظر إلى التحولات الجيوسياسية التي أعقبتها نظيرتها الجيوستراتيجية ولدت من رحم هاته الحرب حرب الكراهية و إذكاء العنصرية التي تتخذ من إعادة الصراع على الملل و النحل و المذاهب و الطائفية و المذهبية ركيزة أساسية تستند عليها من أجل إشعال الفتيل في بيت النار.
فأولى شرارات الحرب بين روسيا و بنتها الصغرى في زمن الاتحاد السوفياتي أوكرانيا بدأت بالتنابز بالقوى الناعمة, أين تفاخر البعض من الروس المتشّددين بقوميتهم الأوراسية التي نظّر إليها ألكسندر دوغين, في حين لعب الطرف الآخر على منطق الإستقواء بالغرب و تنصّله من ماضيه الشيوعي الاشتراكي, و هنا استغل الغرب هذا التجاذب و التناطح و دفع بالطرفين إلى ساحة معركة حقيقة لم تنته رحاها لحد الآن مخلفة وراءها مئات الآلاف من الضحايا.
ثورات الربيع العربي خسر أصحابها و انتفع من أشعلها
و على غرار ما حصل في الثورات الملّونة أو ما اصطلح عليه بثورات الربيع العربي التي خرّبت الأخضر و اليابس في ليبيا و سوريا و نجت منها تونس و مصر بدرجة أقل, مع تسجيل مناعة قصوى لدى بلدنا الجزائر التي حولها شعبها لحراك مبارك خدم العباد و البلاد الأمر الذي لم يعجب الغرب, لا يزال صانعو هاته الحروب يبدون عن سوء النية التي يضمرونها لشعوب العالم الثالث, و أن مصطلح تزكية الديموقراطية و الحفاظ على حقوق الأقليات ما هو إلاّ ذّر الرماد في العيون.
الصين و الهند و باكستان من أجل ترتيب البيت
فما نعيشه في الوقت الراهن من جراء تطاحن الغرب مع الشرق مع إقحام العملاق النائم الصين كطرف ثالث بمعية الهند و باكستان ما هو إلا نوع من الاستفاقة من أجل إعادة ترتيب البيت العالمي, الذي حتما سينذر بزوال دول و بروز أخرى, كل هذا تحت الرعاية السامية للقوى الناعمة و مختلف آليات حروب الجيل الخامس.
العدوان على غزة…أو الحرب الإستباقية الإسرائيلية
و لعل ما عايشه و يعايشه إخوتنا الغزاويون من نار و دمار يعتبر هو الآخر توصية من توصيات منظمات من عيار الناتو و جماعته من أجل الدخول في حرب استباقية للحفاظ على كيان مجهري اسمه إسرائيل, التي يحّبذ العالم الغربي الحفاظ عليها لأنها الأذن التي يسمع بها و اليد التي يبطش بها في الشرق الأوسط, ففلسطين حسب خبراء الأمس و اليوم تعتبر قلب العالم و قلب الخريطة فمن امتلكها بسط يديه على العالم.
لذا فالحرب على غزة كانت عبارة عن جرعة مناعة استباقية للإبقاء على هذا الكيان الذي يضطر من حين لآخر لتأمين مكتسباته على طريقة ميكيافيلي في كتاب الأمير, حيث يخلق لنفسه أعداءا من عيار إيران و سوريا و كذا لبنان و التّلذذ في إيذائهم من أجل البرهنة على أن هذا الجسم الغريب لا يزال على قيد الحياة.