شهدت منطقة ألزاس الفرنسية تطورات لافتة في العقد الأخير، تمثلت في تصاعد الدعوات إلى استعادة وضعها الإداري المستقل، وذلك بعد دمجها ضمن منطقة “غراند إيست” في عام 2016. تشير نتائج استطلاع للرأي أُجري في أبريل 2025 إلى أن 72% من السكان يدعمون انفصال ألزاس عن “غراند إيست”، في حين أعرب 70% عن رغبتهم في حكم ذاتي موسع. يعكس هذا الاستطلاع رغبة متجذرة لدى سكان المنطقة في الحفاظ على هويتهم الثقافية والإدارية الفريدة. تماما مثلما يحلم سكان كورسيكا بالإنفصال عن فرنسا حيث يميلون هم أيضا لحكم ذاتي يقّربهم بالجانب الإيطالي الذين يعتبرونه الأصل فيما يعتبر مجمل سكان كورسيكا فرنسا على أنها الفرع.
فمنطقة ألزاس تعد واحدة من أكثر الأقاليم الفرنسية حساسية من حيث الهوية الثقافية والانتماء التاريخي. تقع على الحدود الشرقية لفرنسا، وتتقاطع فيها التأثيرات الفرنسية والألمانية، ما جعلها ساحة لصراعات سياسية وثقافية منذ قرون. أعاد الاستفتاء الرمزي الذي أجري في أبريل 2025 – ونشرت نتائجه مؤسسة إيفوب بتكليف من جمعيات محلية – النقاش حول مستقبل ألزاس الإداري إلى الواجهة، بعد سنوات من الضم القسري إلى منطقة “غراند إيست”.
نتائج الاستفتاء الشعبي – مؤشرات قوية على الاستقلالية
أظهر استطلاع إيفوب أن 72% من المشاركين سيصوتون لصالح إعادة إنشاء منطقة ألزاس المستقلة، فيما عبر 70% عن دعمهم لفكرة منح المنطقة حكمًا ذاتيًا موسعًا. وتُعد هذه النسبة مرتفعة وذات دلالة سياسية واجتماعية كبيرة، لا سيما أنها تتوافق مع استطلاعات سابقة، ما يشير إلى استمرارية المزاج الشعبي الرافض للاندماج داخل “غراند إيست”.
كما يُفسَّر هذا التوجه الشعبي بأنه تعبير عن رفض متواصل لما يعتبره السكان “انصهارًا قسريًا” طمس خصوصية ألزاس، وهو ما تؤكده التعبئة القوية من طرف جمعيات محلية نشطة في الدفاع عن الهوية الإقليمية، من بينها جمعيات تولي أهمية خاصة للعلاقات عبر الحدود مع ألمانيا.
من “غراند إيست” إلى هيئة أوروبية خاصة
في عام 2016، وفي إطار سياسة إصلاح إداري واسعة، دُمجت ألزاس مع منطقتي لورين وشامبان-أردين ضمن كيان إداري جديد هو “غراند إيست”. وقد علّلت الحكومة الفرنسية هذه الخطوة بالرغبة في تعزيز الفعالية وتقليل التكاليف. غير أن هذا القرار قُوبل بانتقادات واسعة من النخب المحلية والمجتمع المدني، بسبب ما اعتُبر إضعافًا للتمثيل المحلي وتقليصًا للخصوصية الثقافية لألزاس.
وفي محاولة للاستجابة لتلك الاعتراضات، أُنشئت عام 2021 “الهيئة الإقليمية الأوروبية لألزاس”، والتي مُنحت صلاحيات محدودة في مجالات مثل التعاون عبر الحدود والتعليم المحلي، لكنها بقيت دون تطلعات الحركات المطالبة بحكم ذاتي أوسع.
الألزاس…هوية مزدوجة تبحث عن اعتراف
تميزت ألزاس على مر التاريخ بهوية ثقافية مزدوجة، تأثرت بالسيادة المتبادلة بين فرنسا وألمانيا. فقد انتقلت السيادة عليها عدة مرات بين الدولتين، أبرزها في 1871 عندما ضمتها ألمانيا بعد الحرب الفرنسية-البروسية، ثم عادت إلى فرنسا عام 1919، لتُحتل مجددًا من قبل ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن تعود نهائيًا لفرنسا عام 1945.
هذا التاريخ جعل من سكان ألزاس فئة ذات وعي ثقافي خاص، تعتز بلغتها وتقاليدها وموقعها الجغرافي-الاقتصادي، وهو ما يفسر استمرار المطالبات بحكم ذاتي يعكس الخصوصية المحلية دون التماهي الكامل في البنية المركزية الفرنسية.
المستقبل بين النزعة الجهوية والوحدة الوطنية
إن المطالب المتصاعدة باستقلال إداري أو حكم ذاتي موسع تضع الحكومة الفرنسية أمام تحدٍ مزدوج و هو الحفاظ على وحدة الدولة من جهة، والاستجابة لمطالب مشروعة تتعلق بالهوية والتمثيل من جهة أخرى. ومع استمرار الحراك السياسي والمدني في ألزاس، قد تجد الدولة الفرنسية نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في توزيع الصلاحيات، سواء من خلال تنظيم استفتاء رسمي، أو تعديل الهيكل الإداري الحالي بطريقة تراعي الخصوصية الجهوية.
الاستجابة لتلك المطالب، ضمن إطار ديمقراطي ومؤسساتي، من شأنها تعزيز الاستقرار الوطني وتأكيد التعددية الثقافية داخل فرنسا. في المقابل، فإن تجاهل هذه التحركات قد يُذكي الشعور بالتهميش ويعزز النزعات الانفصالية.
لذا تُظهر نتائج استطلاع أبريل 2025 أن الحنين إلى كيان إداري مستقل في ألزاس لم يخفت، بل اكتسب دعمًا شعبيًا واسعًا. وبينما تبقى ألزاس جزءًا من فرنسا، فإن البحث عن صيغة توازن بين وحدة الدولة واحترام الخصوصيات الجهوية يبقى المسار الأمثل. لهذا فإن مستقبل ألزاس، من منظور ديمقراطي وتعددي، ينبغي أن يُبنى على الحوار والاستماع لرغبات السكان، في ظل احترام الإطار الجمهوري العام.
المراجع:
-
Ifop Survey, April 2025 – Commissioned by Local Associations in Alsace
-
Ground News Report, June 4, 2025
-
Treaty of Versailles, 1919 – Historical Records
-
French Administrative Reform Act, 2015
-
Regional Council of the European Collectivity of Alsace, 2021-2024 Repor