ما قل ودل

هنري مايو…ذلك الفرنسي الشجاع الذي ناصر الثورة الجزائرية

شارك المقال

مواصلة لجهود جريدة “المقال” في كشف المستور عن كل الأحرار الذين آزروا ثورتنا المجيدة و من خلال سلسلة باعوا فرنسيتهم ليشتروا جزائريتهم, آثرنا هذه المرة الحديث عن أحد الضباط الفرنسيين الذي قرر انطلاقا من منصبه خدمة القضية الجزائرية, أين اعتبر نفسه جزائريا بالمولد و لا يمكنه أن يتنّكر للبلد الذي آوته هو عائلته و كانت ذات فضل عليه, فهنري مايو يعتبر من بين الذين تخّلوا عن كل الامتيازات في سبيل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة.

   لذا فهنري مايو يمثل نموذجًا نادرًا في تاريخ حركات التحرر, فهو جندي فرنسي من أصول “أوروبية جزائرية” انخرط في النضال المسلح إلى جانب الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي, يعكس مساره التزامًا أخلاقيًا وإنسانيًا استثنائيًا دفعه لتجاوز الانتماء القومي لصالح مبادئ التحرر والعدالة. يتناول هذا المقال سيرة هنري مايو ضمن سياق الثورة الجزائرية، مبينًا دوافعه السياسية والإنسانية، ومساهماته الميدانية، وكيف شكّل انضمامه للثورة نقطة تقاطع بين اليسار الفرنسي ومطالب الاستقلال الوطني في الجزائر.

 الاستثناء الثوري

عادةً ما تُقرأ ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962) بوصفها صراعًا بين الجزائريين والسلطة الاستعمارية الفرنسية، غير أن هذه المقاربة تُغفل مساهمات أفراد أوروبيين انشقوا عن صفوف الاستعمار وساندوا الثورة. من أبرز هؤلاء، الجندي الشيوعي هنري مايو، الذي لم يكن فقط متعاطفًا مع القضية الجزائرية، بل فاعلًا ميدانيًا فيها، حيث قدّم السلاح للمجاهدين وقاد مجموعة مسلحة عُرفت باسم “مقاتلون من أجل التحرير”.

 النشأة والتكوين السياسي

وُلد هنري فرانسوا مايو يوم 11 يناير 1928 في حي سالومبي (المدنية حاليًا) بالجزائر العاصمة، في عائلة أوروبية تنتمي إلى فئة “الأقدام السوداء”, ترعرع في بيئة استعمارية لكنه سرعان ما تأثر بالمناخ السياسي المتوتر في الجزائر وبالفكر الشيوعي الذي كان في أوجه آنذاك. في سن مبكرة، انخرط في الشبيبة الشيوعية الجزائرية، ثم أصبح أمينًا عامًا لاتحاد الشبيبة الديمقراطية، وهو تنظيم كان يحتضن الشباب من خلفيات متعددة، من الجزائريين والأوروبيين المعادين للاستعمار.

خلال فترة دراسته في المدرسة العليا للتجارة بالجزائر، تعمقت قناعاته السياسية، ليعمل لاحقًا محاسبًا في صحيفة Alger Républicain التي كانت منبرًا لليسار المناهض للاستعمار.

 من الشيوعية إلى المقاومة المسلحة

في أبريل 1948 التحق بالخدمة العسكرية، ورغم تصنيفه كشيوعي مراقب، أُرسل إلى وحدات عسكرية وأُسندت إليه مهام إدارية متعلقة بتسيير الذخيرة. في هذه المرحلة، أصبح مايو شاهدًا مباشرًا على الجرائم الاستعمارية التي ارتُكبت بحق المدنيين الجزائريين، خاصة بعد أحداث قسنطينة في 1955 ومجزرة ملعب فيليب فيل (20 أوت حاليًا) بسكيكدة، والتي راح ضحيتها آلاف الأبرياء.

شكلت هذه الأحداث نقطة تحول جذري في مساره، إذ بات مقتنعًا بأن النضال السياسي وحده غير كافٍ، وأن مقاومة الاستعمار تتطلب فعلًا مسلحًا.

 

 عملية التهريب الكبرى…4 أبريل 1956

قرر مايو استغلال موقعه العسكري، ونفذ عملية نوعية يوم 4 أبريل 1956، حيث استولى على شاحنة عسكرية محملة بأسلحة وذخائر من قاعدة مليانة العسكرية، وحولها إلى جبال عين الدفلى حيث استلمها مجاهدون جزائريون.

كتب بعد العملية رسالة للصحافة قال فيها:

«لست مسلمًا، ولكنني جزائري من أصول أوروبية. أعتبر الجزائر وطني وعليّ أن أقوم بكل واجباتي تجاهه، من خلال تزويد المحاربين بالأسلحة اللازمة لكفاحهم».

أثار هذا الموقف صدمة في الأوساط الاستعمارية، ليصدر في حقه حكم بالإعدام غيابيًا بتاريخ 22 ماي 1956.

 “مقاتلون من أجل التحرير”

بعد العملية، أسس هنري مايو تنظيمًا مسلحًا أطلق عليه اسم “مقاتلون من أجل التحرير”، ضم عناصر شيوعية فرنسية وجزائرية، من بينهم محاربون قدامى في الحرب الإسبانية. عملت المجموعة في جبال الونشريس، وكانت تنّسق بشكل جزئي مع الولاية الرابعة لجبهة التحرير الوطني.

نفذت هذه المجموعة عمليات فدائية ضد الثكنات ومراكز الشرطة الفرنسية، وساهمت في إيصال الدعم اللوجستي للثوار.

 التصفية الجسدية والاستشهاد

في 5 جوان 1956، طوقت القوات الفرنسية مجموعة مقاتلة كان هنري مايو يقودها قرب منطقة بني بودوان بولاية الشلف. دارت اشتباكات عنيفة، أسفرت عن مقتل جميع أفراد المجموعة، من ضمنهم مايو، الذي قاوم حتى آخر لحظة.

عقب مقتله، تم عرض جثته في ساحة بلدة لامارتين كوسيلة دعائية وترهيبية من قبل سلطات الاحتلال، ما كشف مجددًا بشاعة الممارسات الاستعمارية.

 دفع حياته ثمنا لرفضه للعنف الاستعماري  

لا يمكن اعتبار هنري مايو مجرد “خائن” من وجهة النظر الفرنسية، بل هو مناضل إنساني ثوري ساند شعبًا في كفاحه ضد الاستعمار، بناءً على مبادئ العدالة والتحرر. لقد مثّل عنصر تلاقي بين اليسار الفرنسي والمطالب الوطنية الجزائرية، مجسدًا رفضًا صريحًا للعنف الاستعماري، حتى وإن كلفه ذلك حياته.

يؤكد مساره أن الثورة الجزائرية لم تكن فقط معركة محلية، بل كانت أيضًا قضية كونية استقطبت ضمائر حرة من مختلف الجنسيات والخلفيات، وكان هنري مايو أحد أبرز رموزها.

مراجع 

  1. نون بوست، “فرنسيون ضد الاستعمار: هنري مايو”، 2024.

  2. D. Stora, Histoire de la guerre d’Algérie, Paris: La Découverte, 2004.

  3. J.-P. Peyroulou, Généalogie de la violence d’État en Algérie coloniale, Paris: L’Harmattan, 2006.

  4. أرشيف جريدة Alger Républicain.

  5. شهادات من المجاهد عبد القادر بابو، محفوظة في أرشيف مركز البحث في الحركة الوطنية بالجزائر.

Share on facebook
Facebook
Share on telegram
Telegram