قراءة النّاقد الجزائريّ البروفيسور عبد القادر فيدوح
الجزء الأخير
يمثل الإصدار الجديد للدكتورة سعاد بسناسي خطوة نوعية في مسار أبحاثها، حيث نجحت في تقديم مقاربة تجمع بين التخصص اللغوي والدراسات الأدبية بعمق وتحليل دقيق. يتناول كتابها “مضمرات الملفوظ في السرد ” واحدة من أهم السمات في السرد، من خلال دراسة الأبعاد الصيغية للملفوظات، إلى جانب استكشاف العوامل التي تحدد سيرورة الشخصيات وأدوارها ووظائفها داخل النص.
وقد اعتمدت الدكتورة سعاد بسناسي في هذا العمل على تحليل دقيق للملفوظات السردية، بوصفها تعبيرًا عن وعي الشخصيات بمهامها وأدوارها، مستندة إلى رؤية دلالية تكشف عن علاقتها بالسياق العام للرواية. كما يبرز الكتاب البعد الاجتماعي والثقافي للملفوظ السردي، موضحًا كيف تعكس الشخصيات عبر أفعالها وتحولاتها منظومة ثقافية مترابطة. وفي هذا السياق، يصبح الملفوظ السردي – في نظرة الباحثة سعاد – أكثر من مجرد أداة لغوية، بل يمثل مفتاحًا لفهم الأنساق الثقافية التي تحدد أدوار الشخصيات في الحياة اليومية، وما يترتب على ذلك من تحولات تتماشى مع طبيعة الرسالة التي يسعى كل نص إلى إيصالها.
توضح الدكتورة سعاد بسناسي أن الملفوظات السردية تتميز بفعاليتها في تحقيق التواصل والتداول داخل النصوص، حيث تتشكل من خلال تحولات المحمول والموضوع، ليس فقط باعتبارها وسيلة تعبير، بل أيضًا كرؤية وموقف يعكسان العلاقة بين السارد والمتلقي. وتعد هذه الملفوظات من أكثر الأشكال السردية تأثيرًا، لما تحمله من دلالات تفاعلية، تعبّر عن طبيعة العلاقة بين الشخصيات والأحداث، استنادًا إلى تحولات الأنساق والسياقات المتنوعة، التي تسهم في تشكيل بنيتها.
وفي هذا السياق، يعتمد بناء الملفوظ السردي – في نظرها – على الرؤية التي تمنح الشخصيات دورها في الخطاب السردي؛ إذ تتميز الرواية بانفتاحها على احتمالات متعددة، مما يسمح بتطويع الألفاظ والعلاقات داخل النص، خصوصًا العلاقة بين الذات والموضوع. كما بينت الدكتورة سعاد أن هذه التفاعلات تؤثر في وعي المتلقي، سواء من خلال الألفاظ اللغوية الصريحة، أو عبر ما يُضمر داخل النص، حيث يصبح المسكوت عنه جزءًا أساسيًا من عملية التلفظ.
ومن اللافت أن الصمت في السرد، سواء جاء من السارد المتكلم أو السارد الصامت، يُمثل بحد ذاته ملفوظًا ذا دلالة عميقة؛ إذ يكشف عمّا هو مخفي أو مضمر في بنية النص. فالصمت القرائني – في نظر الدكتورة سعاد – ليس غيابًا للمعنى، بل هو لغة خفية تعكس البعد النفسي للشخصيات، وتكشف عن التوترات والمضامين غير المعلنة التي تتشكل ضمن نسيج السرد، مما يضفي على النص بعدًا تأويليًا يعمّق فهم القارئ للدلالات المتوارية خلف الكلمات.
وتجدر الإشارة إلى أن الدكتورة سعاد بسناسي قدّمت طرحًا متميزًا عند تناولها لفكرة “الصمت في السرد“، حيث أظهرت رؤية جديرة بالاهتمام في تسليط الضوء على هذا الجانب، الذي لم يحظَ باهتمام واسع في الدراسات السردية السابقة. ويُعد تناولها لهذه الظاهرة إضافة نوعية إلى المجال النقدي، إذ كشفت عن أبعاد جديدة للصمت، بوصفه أداة سردية تحمل دلالات عميقة، تؤثر في بنية النص وعلاقته بالقارئ. ويعكس هذا الإسهام قدرتها على استكشاف زوايا غير مطروقة – في علاقة النص السردي بالصمت المنطَّق – ، مما يضفي على أعمالها قيمة بحثية؛ وأهمية فكرية تستحق التقدير.
لقد قدّمت الدكتورة سعاد مقاربة فنية ملفتة للنظر، وجديرة بالاهتمام، تدمج القارئ في عملية التلفظ داخل السرد، بحيث يصبح جزءًا فاعلًا في استكشاف دلالات النص، وفهم أبعاده العميقة. وتقوم هذه الرؤية السردية على تصوير واقع مأزوم يعكس صراعات الشخصيات، التي تتحرك بين واقعين متداخلين: أحدهما ملموس وفعلي، والآخر يتجلى من خلال التجربة الداخلية والتأملية. ولعل هذا التفاعل بين القارئ والنص من شأنه أن يعزز من فاعلية السرد، حيث لا يقتصر دوره على نقل الأحداث، بل يمتد ليكشف عن أبعاد نفسية واجتماعية، تعيد تشكيل وعي المتلقي، وتمنحه فرصة للتأمل في معاني النص وأبعاده الخفية.
أما الواقع الثاني الذي أفاضت فيه الدكتورة سعاد، فهو فني، ويتجسد من خلال العملية السردية في تفاعلاتها المختلفة، وفقًا لما أسسه غريماس حول العلاقة بين السيميائيات السردية البنيوية واللغة والنحو، حيث تتجلى هذه العلاقة عبر التمظهرات اللسانية وغير اللسانية. كما يتصل هذا الطرح برؤية بروب في تحديد الوظائف السردية النموذجية، ودوره في تصنيف العوامل السردية، التي تؤدي أدوارًا محددة داخل البناء السردي.
وتتنوع هذه الوظائف – بحسب رأي الدكتورة سعاد – بين البعد التواصلي والتفسيري، مما يستدعي الوقوف عند العملية التأويلية؛ لفهم الأبعاد التي يسعى السرد إلى إبرازها. ويتحقق هذا الفهم – في نظرها – ضمن سياقات تأخذ في الاعتبار السمات الجوهرية وغير الجوهرية للنص، إلى جانب الأبعاد الاجتماعية، والمعرفية، والأيديولوجية، والتاريخية، والثقافية، وغيرها، مما يجعل الرؤية السردية أكثر شمولًا وتأثيرًا في تشكيل وعي القارئ، والنظر إلى السرد بوصفه أداة تعبير متعددة المستويات والدلالات.
تناولت الدكتورة سعاد في كتابها (مضمرات الملفوظ في السّرد) بشكل مفصل تطور البناء السردي من خلال تتبع البرامج السردية، سواء أكانت بسيطة أم مركبة، موضحة الأدوار الفاعلة التي تسهم في تشكيل الشخصيات وتحولاتها المتعاقبة، وصولًا إلى تحقيق غاياتها وطموحاتها. وفي هذا السياق، ركزت دراستها جملة من المحاور الأساسية، تتفرع وفقًا لمتطلبات التحليل والتطبيق، حيث استعرضت تداولية الملفوظات السردية ودلالاتها، ومقاربتها في ضوء المرجعيات الثقافية التي تستند إليها، بالإضافة إلى كيفية تحقيقها للتفاعلات السردية عبر الدلالات التي تتشكل ضمن السياق.
كما سلطت الضوء على تنوع أساليب الملفوظات السردية وأحداثها، وما ينطوي عليه السرد من تداخل الأصوات (البوليفونية)، مع التركيز على التوازنات الصوتية، وإيقاعاتها المختلفة. ولم تغفل الدراسة الوظيفة التواصلية للملفوظات السردية، وصولًا إلى تحليل العلامات اللغوية ومدلولاتها، وفقًا لأنواعها المختلفة داخل الرؤية السردية.
وفي سبيل ذلك، استعانت الدكتورة سعاد بعدد من الروايات العربية، بخاصة منها الروايات الجزائرية، التي جسدت هذا التوجه، مثل أعمال نجيب محفوظ، الطاهر وطار، واسيني الأعرج، عز الدين جلاوجي، محمد ساري، صنع الله إبراهيم، الحبيب السائح، غادة السمان، وأحلام مستغانمي، وغيرهم. وقد أتاحت هذه النصوص مجالًا واسعًا للتحليل، للكشف عن التحولات الدلالية المتنوعة التي تعكس ديناميكية الرؤية السردية، وما تخضع له من تأثيرات فكرية وثقافية وحضارية واجتماعية.
كما تطرقت إلى الآفاق التداولية غير الكلامية التي تتجلى في التفاصيل الوصفية للملفوظات، حيث تم تحليل بنياتها وربطها بمفهوم “الإحالة“، مع دراسة ترتيب عناصرها وفقًا لوظيفة “الارتداد التكميلي“، التي تعمل على سد الفجوات السردية الناجمة عن الإضمار أو التضمين، خاصة عندما يحجب الكاتب عمدًا بعض التفاصيل، أو الأحداث بغرض تكثيف الدلالة. وفي هذه الحالات، يُختزل السرد في نقاط محددة تتيح تحقيق رغبات الشخصيات الفاعلة، وفقًا لمبدأ “إرادة الفعل“، الذي يرتبط بالكفاءات اللازمة لتشكيل هذه الشخصيات داخل البناء السردي.
ويعنى كتاب “سيمياء الملفوظات السردية” بتناوله العميق لمفهوم الصمت في الملفوظ السردي، بوصفه عنصرًا دالًا يحمل أبعادًا وظيفية متنوعة داخل الرؤية السردية. وتكمن أهميته في كونه يتطرق إلى ظاهرة المسكوت عنه في العملية السردية بأسلوب مفصَّل لم يسبقه إليه أي باحث بهذا الطرح، مما يمنحه قيمة بحثية متميزة في مجال الدراسات السردية.
- وقد نظرت الدكتورة سعاد إلى الملفوظ بوصفه نتاجًا لمجموعة من الوحدات اللغوية المتلفظة أو المحددة بفترتين من الصمت، حيث يمثل صيغة دلالية تحمل معنى معينًا، سواء كان منطوقًا أو مكتوبًا. وبهذا، يُعد الملفوظ وحدةً لسانيةً خطابيةً أساسيةً في تحليلات فلسفة اللغة واللسانيات المعاصرة، مما يميزه عن فعل التلفظ (Acte d’énonciation، الذي يشير إلى استخدام اللغة في الحياة اليومية، أي الكلمات التي تُقال في مواقف تفاعلية. نظرا إلى أنه في الأساس يمثل عملية التعبير اللفظي، سواء كان في محادثة بين شخصين أو ضمن سياق اجتماعي أوسع، من حيث كونه يرتبط بالإنجاز التواصلي أو التداولي في سياقات مختلفة.
ويُشار إلى أن الصمت الذي يحيط بالملفوظ يتخذ شكل فترتين محددتين: الأولى ما قبل التلفظ، وهي المرحلة التي تتحقق ذهنيًا قبل النطق، أي مرحلة “ما قبل حدوث الصوت”، والثانية ما بعد التلفظ، حيث يعود الصمت ليكون جزءًا من العملية التواصلية عند انتهاء الملفوظ، وهو ما يمكن مقارنته بآلية التفكير قبل الكتابة وبعدها.
يتجلى ذلك في تنوع أشكال الملفوظات، مثل ملفوظ الإصلاح، وملفوظ الاضطراب، وملفوظ الإضمار بأبعاده المختلفة، إضافة إلى الإشارات الزمنية المحذوفة وما تحمله من دلالات، إلى جانب ملفوظ الإفاضة الذي أشار إليه (جيرار جينيت) في إطار مقولات الصيغ وتغيراتها، حيث يمكن أن يتجاوز حدود التبئير في مقطع سردي معين، منتقلاً من التبئير الخارجي إلى التبئير الداخلي، بما يعكس ارتباطه العميق بأفكار الشخصيات وتصرفاتها.
في هذا السياق، تبرز أهمية السرديات التلفظية التي تتناول مستويات الملفوظات السردية ووظائفها المختلفة، خاصة عند الحديث عن مفهوم “الامّحاء التلفظي”، الذي يُستخدم كآلية لإضفاء طابع من الموضوعية داخل النص، عبر تفويض التبئير إلى ذوات غير محددة. وبهذا يصبح الامّحاء التلفظي أداةً سرديةً تتيح للذوات المتحدثة في النص إقامة علاقات لغوية متشابكة تستند إلى بنى نصية محددة وخصائص شكلية تضمن الترابط بين الملفوظات، مما يتيح إنتاج خطاب روائي مؤثر في مستوى الإنجاز والتأويل، وفقًا للمعارف الثقافية المشتركة بين المتخاطبين.
كما يتجلى الصمت في الرواية بوصفه جزءًا من استراتيجية السرد، سواء من خلال لغة التخاطب المباشرة أو عبر المسكوت عنه، الذي يُمارس بالإضمار أو الإخفاء المتعمد، مما يسهم في تعميق الرؤية السردية وتعزيز الأثر الدلالي للنص. ويتحقق ذلك عبر آليات التلفظ التي تتحكم في توزيع الملفوظات وفق نظام سردي محدد، بحيث تتوالى الأحداث وفق مسارات منظمة تخضع للتحولات السردية والأدوار الفاعلة. وينعكس ذلك في ضرورة التمييز بين المستويات السردية للنصوص، انطلاقًا من تحليل “الصوت السردي”، الذي يقود إلى التفرقة بين الإنتاج النصي، وصيغ التلفظ، وأنماط الخطاب المختلفة التي تشكل البناء السردي للرواية.
في ختام هذا التقديم، لا بد من الإشادة بهذا العمل الذي يتميز بثرائه وتكامله، حيث يجمع بأسلوب متقن بين الدراسات اللغوية والنقدية، مما يضفي عليه طابعًا فريدًا يسهم في إثراء البحث الأدبي. كما تتجلى أهميته في قدرته على تقديم رؤية تحليلية تربط بين مختلف المستويات اللغوية والتأويلية، ما يمنحه بعدًا منهجيًا يجمع بين الدقة الأكاديمية والعمق النقدي.
إن هذا المنجز لا يقتصر على كونه مجرد دراسة نظرية، بل يشكل إضافة نوعية تفتح آفاقًا جديدة أمام الباحثين والمهتمين بالمجال الأدبي، نظرًا إلى ما يقدمه من مقاربة متجددة تسهم في توسيع دائرة الفهم والتحليل. وبفضل هذا التوازن بين العمق اللغوي والرؤية النقدية، يظل هذا العمل نموذجًا يستحق التقدير، لما يقدمه من إسهامات علمية تعزز من قيمة البحث الأدبي وتجعل منه مصدرًا ثريًا للنقاش والتأمل.
وفي الختام، أود الإشادة بهذا الإنجاز المتميز، الذي يتجلى في منهجية التحليل الدقيقة والاختيار المدروس للنصوص “محل الدراسة“. فقد تناولت الدكتورة سعاد الروايات الجزائرية بعمق، مسلِّطة الضوء على الرؤية السردية بأسلوب يجمع بين الدقة النقدية والشمولية في الطرح، مما يجعل هذه الدراسة إضافة قيمة تثري البحث الأدبي، وتسهم في فهم أوسع للبنية السردية في الرواية.
إنتهى
البنية السردية وتأويلاتها عند الدكتورة سعاد بسناسي…من خلال كتابها (المضمر في الملفوظات السّرديّة)